إن من أكبر منابع مشكلة النهضة العلمية في العالم الإسلامي هو كون كثيرٍ من القائمين على العملية التعليمية فى التخصصات العلمية و التقنية من ذوى التفكير غير المغامر: يعنى يحبون اللعب فى المضمون، فلا تُحدثهم عن تطوير نظام تشغيلٍ لأن هذا يستغرق وقتاً طويلاً و فى النهاية فربما لا يكون له ناتج مادى، و لك أن تحدثهم كما تشاء عن تطوير أنظمة الإنذار و بناء أنظمة التحكم الرقمية الأدق للمصانع؛ لأن هذه الأشياء ذات أثرٍ عملىٍ واضحٍ و حاجةٍ صناعيةٍ ملموسة، و أنا أتفق معهم فى الاهتمام بمثل تلك الأبحاث لأن هذا يُعد جزءاً من دور الجامعات و المراكز البحثية، لكننى ضدهم تماماً فى جعل ذلك المصب الوحيد لاهتماماتهم.
و حتى يُفيق المجتمع الأكاديمى العربى خاصةً و الإسلامى عموماً من تلك الغيبوبة الفكرية التى تظلله فإن الأمور لن تخرج عن هذا النطاق من التفكير، و لن يكون بإمكان أى مبدعٍ عربىٍ أو مسلمٍ أن ينفذ رؤاه على أرض الواقع فى بلاده. و سيستمر الواقع العلمى المخجل للأمة، فيعيش المسلمون عالةً على غيرهم فى العلوم بكل المقاييس.
فلا ننتج بل نستهلك.
و لا نختار أجود المستهلكات بل يختار فاسدونا أنفعها لهم و أفضلها مكسباً.
و حينما نستهلك ما نستهلكه لا نسميه باسمه الأصلى بل باسم السلعة التى استهلكناها، فيصبح كل نظام تشغيلٍ (ويندوز) و كل لعبة إلكترونية (أتارى) و مثل هذا كثير.
بل و الأنكى و الأشد إثارةً للغيظ أننا ننفق الكثير و الكثير على توافه الأمور مثل كرة القدم، و الأكثر على معاصى الله تعالى كنفاق الحكام و الحفلات الماجنة و لا ننفق على العلوم إلا أقل القليل، و أقل القليل هذا لا ننفقه على العلم الحقيقى بل على العلم من عينة “تعلم كيف تصنع أسطوانة ويندوز عليها صورك و برامجك” و ما تبقى مما ينفق يتم إنفاقه على مرتبات موظفى الحكومة من نوعية “عدى علينا بكرة يا مواطن”.
أما العلم الحقيقى فليس له معينٌ من المسئولين أو أهل الحل و العقد، فليس أمام المبدع الحقيقى إلا أن يبحث عمن هم على شاكلته ليُكونوا مع بعضهم البعض ثلةً من المنبوذين، أو أن يرضى بالواقع و رويداً رويداً يتحول هو نفسه إلى واحد من المثبطين لهمم من يحاول التغيير و التقدم.
لكننى أعود إلى القناعة التى تولدت لدى و ثبتت فى فكرى حتى كادت تصبح من المسلمات: و هى أن العلوم البرمجية تعد واحدةً من أيسر السبل التى يمكن للأمة أن تبدأ بها النهضة العلمية إذا ما أرادت أن تكون لها واحدة، فهذا النوع من العلوم لا يستلزم من الإنفاق المادى مقارنةً بباقى العلوم إلا أقل القليل، و لا يستلزم إلا الكثير و الكثير من الفكر و الإبداع، و فى هذا فإن أمم الأرض و شعوبها تتساوى إذا ما حَصَّل أهلها العلم على قدرٍ متساو.
و إلى أن يحدث مثل ذلك التغير لا يكون أمام من هم على شاكلتنا ممن يبحثون عن التحصيل العلمى الحق إلا المحاولات الفردية، و التى يقومون بها كتمهيدٍ لجيلٍ قادم يُصلح الأمور كما ينبغى أن يكون الإصلاح.