في المقالات السابقة تكلمنا عن البرمجيات الحرة في البرازيل و ماليزيا، ولعل القاسم المشترك بينهما هو أنهما يصنفان تحت الدول النامية، وتعتبر البرمجيات الحرة فرصة لا تعوض للتطوير الاقتصاد التقني في تلك البلدان، ولكن الوضع يختلف قليلا في حالة الدول المتطورة من أمثال ألمانيا والتي لا تعاني عادة من مشكلة الحفاظ على حقوق الملكية و التراخيص، و لديها تطور تقني كبير في مجال إنتاج البرمجيات للعالم بأكمله.
وبالرغم من ذلك، فإن توفير قيمة تراخيص البرامج المملوكة على المستوى الحكومي غير الربحي، يعد مغريا لجميع الدول من دون استثناء، بالإضافة المميزات الإضافية من أمان عالي وبرمجيات ثابتة قليلة المشاكل، و قابلية التطوير والتخصيص من دون الحاجة لشراء تراخيص للتطوير، وأخيرا الانفكاك من عقدة الانغلاق على مزود واحد.كل هذه المميزات لا توجد في الحلول البرمجية المملوكة.
سنتحدث في هذه المقالة عن تجربة مدينة ميونخ ثالث أكبر مدن ألمانيا وعاصمة ولاية بافاريا الواقعة في جنوب ألمانيا مع البرمجيات الحرة وخطتها والمشاكل التي واجهتها أثناء عملية الانتقال من برامج مملوكة تجارية إلى أنظمة وبرمجيات حرة، وآخر التطورات في هذا المجال.
في عام 2003م، صوّت مجلس المدينة لتخطيط عملية الانتقال من نظام ويندوز إلى نظام جنو/ لينكس، وفي عام 2004م قرر المجلس بالبدء في عملية الانتقال، ولكن لمخاوف قانونية من انتهاك براءات اختراع توقف المشروع حتى تتضح الصورة القانونية، وفي عام 2005م اختيرت توزيعة دبيان لينكس كنظام تشغيلي معتمد لمشروع الانتقال، والذي أطلق عليه ليموكس ويهدف إلى عملية تحويل 14 ألف حاسوب لموظفين عمومين إلى البرمجيات الحرة ووضعت له ميزانية قدرها 12 مليون يورو.
من ناحية مقارنة التكلفة الإجمالية بين الحلول المملوكة و الحرة، فإن الحلول المملوكة تكلف ما يقارب 35 مليون يورو، في مقابل 37 مليون يورو للحلول المعتمدة على جنو لينكس، وتشمل التكلفة الإجمالية مصاريف ما بعد الحل نفسه مثل تكاليف التدريب والدعم والصيانة. قد تكون الحلول المملوكة أكثر توفيرا في التكلفة من البرمجيات الحرة، إلا أن فوائد الاستراتيجية على المدى الطويل جعل المدينة تسير في خطة الانتقال، وتتمثل في نظرهم:
أولا:انخفاض كلفة التراخيص باستمرار، فالمدينة تتوقع أن توفر ثلاثة ملايين يورو خلال السنوات الثلاث القادمة من قيمة التراخيص، ثانيا: التحكم المحلي في كل شيء، ثالثا: الحرية في الإبداع والتطوير، رابعا: الانتقال إلى معايير مفتوحة للمستندات،خامسا: أكثر أمانا من ناحية الفيروسات والمشاكل الأمنية.
في سبتمبر 2006م بدأت عملية الانتقال بشكل لطيف متأخرة بسنة عن الخطة الأصلية. وفي عام 2010م اعتمدت وثبت حزمة أوبن أوفيس كبديل عن مايكروسوفت في جميع الأجهزة، ومتصفح فيرفكس كبديل عن إنترنت إكسبلور، وإنشاء عشرين ألف نموذج لأوبن أوفيس يغطي جميع احتياجات موظفين الحكوميين، وهذه الخطوة جيدة فعندما ينتقل العمل إلى برمجيات الحرة حتى ولو كانت تعمل على منصة ويندوز مبدأيا ، فإنه سيسهل عملية الانتقال إلى نظام جنو / لينكس في النهاية.
وفي صدد الانتقال إلى منصة جنو / لينكس بشكل كامل، فقد نقل أكثر من 3000 حاسوب إلى نظام جنو لينكس كمنصة مكتبية من أصل 14 ألف جهاز، ويخطط لانتقال ألفين حاسوب كل سنة. تظهر هذه الأرقام أن عملية الانتقال بطيئة بعض الشيء، ولكن إدارة ميونخ قررت أن تكون عملية الانتقال سهلة والحرص أشد الحرص على الجودة والإتقان. فالعملية ليست الانتقال من حلول مملوكة إلى برمجيات حرة، ولكن أيضا تحسين وتطوير قدرات التقنية للمدينة.
وكمجمل فإن عملية الانتقال تتم على خطة معينة اعتمدتها المدينة، فأولا اعتمدت المعايير مفتوحة للمستندات بشكل رسمي، بحيث لا تضطر المدينة إلى الانغلاق على منتج واحد وهو مايكروسوفت، و أشهر معيار مفتوح للمستندات هو معيار ODF والذي تدعمه حزمة أوبن أوفيس بشكل جيد، ثانيا تثبت البرمجيات الحرة على المنصات الموجودة وهي مايكروسوفت ويندوز وتستخدم بشكل أساسي وأهم هذه البرمجيات هي حزمة أوبن أوفيس كبديل عن حزمة مايكروسوفت أوفيس، ومتصفح فيرفكس كبديل عن إنترنت إكسبلور، وبرنامج جمب كمحرر احترافي للصور والرسوميات ، وثالثا نقل المستندات الحالية من صيغة مايكروسوفت أوفيس إلى أوبن أوفيس وإنشاء برنامج لإدارة النماذج بحيث تسهل عمل الموظف الحكومي، وتجعله يغير رأيه باتجاه البرمجيات الحرة، وأخيرا وبعد التأكد من أن جودة العمل لن تتضرر بعملية الانتقال من ويندوز إلى جنو لينكس، يتم نقل الجهاز إلى منصة حرة بالكامل.
أما بخصوص البرامج الإدارية الأخرى غير حزمة المكتبية، فإن المدينة قررت اعتماد واختيار الحلول التي تعمل من خلال المتصفح ومستقلة عن أي نظام، وإذا كانت هناك برامج لا تعمل على نظام جنو لينكس فإن البديل هو إما أن يشغل البرنامج في منصة ويندوز بداخل برنامج تخيلي، أو استخدام برنامج واين للمحاكة بيئة ويندوز وتشغيل برامجه.
وكخلاصة لتجربة موينخ مع البرمجيات الحرة، فإن قرار المدينة للانتقال إلى منصة جنو لينكس بالكامل، كان في وقت لم تزل البرمجيات الحرة لم تنضخ للاستخدام المكتبي مما سبب عرقلة وبطء كبير في عملية الانتقال، ولكن ثمار هذه القرار بدأت في الظهور في السنوات الأخير، فأصبحت ميونخ مشهورة دوليا في خطتها الاستراتيجية لاستخدام البرمجيات الحرة في المجال الحكومي، وأن نجاح المشروع أصبح جليا ولم يبق إلا مسألة الوقت، فكل المشاكل التقنية والإدارية حلت خلال السنوات الماضية.