أذكر من عشر سنواتٍ تقريبًا .. في أوّل مرّة تعطّل بها أوّل جهاز حاسوب لديّ، أخبرني فنّي الصيانة بأن الحل هو ‘فرمتة الجهاز ‘ … عاد جهازي ليعمل بعدها بلياقة الوكالة ..
مرة ثانية الجهاز لا يستجيب أبدًا، ومرة ثانية يقول الفني أن الجهاز ‘يحتاج إلى فرمتة’ شعرت عندها أن أية مشكلة تواجهنا سنحلها بـ ‘الفرمتة’ ولم أكن أدري بعد ماهي الفرمتة ..
عندما طلبت من الفني أن يعلمني كيف تتم الفرمتة رفض! وقال بأن هذا من أسرار المهنة!!
سنوات قليلة وقمنا بتركيب جهاز استقبال البث الفضائي .. وكما هو معروف بأن ترددات المحطات تتغير بشكل مستمر … بعد أشهرٍ قليلة أتينا بفني الصيانة ليجد لنا مشكلة لثلاثة أرباع المحطات التي لم تعد تظهر …
بخطوات بسيطة عادت كل المحطات لتعمل …. وعندما طلبت منه أن يعلّمني كيف فعل ذلك، عاد الجواب ذاته لمسمعي …. إنّه سر المهنة (بالمناسبة فني الريسفير شخص آخر غير الأول)
تساءلت مرّة … لماذا يقضي أحدنا خمسة سنوات ليحصل على شهادة هندسة، بينما يحتاج ‘صبي المعلم’ عشر سنوات ليحصّل بضع مهارات ومعلومات لصيانة بعض القطع الكهربائية البسيطة وإصلاح الأعطال الكهربائية المنزلية … ألا يمكن أن يعطي ‘المعلم’ ذات المعلومات والمهارات في ثلاث أو أربع سنوات فقط ؟ … أيحتاج الأمر حقًا عشر سنوات نصفها في صنع الشاي والقهوة وشراء الأغراض من السوق ؟ …
المعرفة قوّة كما قال آينشتاين لذا فكل من يود إبقاءك ضعيفًا سيعمل جاهدًا على إبقاءك جاهلًا .. وهذا ما دفع هتلر ليقول ‘أعظم نعمة للحكومات أنّ شعوبها لا تقرأ ‘ فالشعب الذي لا يقرأ شعب ضعيف يمكنك أن يُستبد به ويُتحكم به ..
هذا يذكرني بالمظاهرات الفرنسيّة الأخيرة التي كانت واسعة الطيف والقوّة، في المقابل فالكثير من الدول العربية تُسن بها قوانين أكثر ضررًا من قانون رفع سن التقاعد إلى 62 ولا أحد يحرك ساكنًا … أعرفتم السبب ؟؟
الضعف بدوره يجلب التبعيّة، أن تكون عاجزًا عن تأمين حاجياتك ومستلزماتك ( غذاء، دواء، كساء، تقنية، معدات، أسلحة …) يعني أنك ستصبح تبعًا لمن يقدر على تأمين هذه الحاجيات لك، والأمر سيتطور … حتى أننا أصبحنا اليوم عبيدًا لمن نستورد من عندهم حاجياتنا …
ومن أهم الشروط التي يفرضونها علينا ألّا نفكّر مجرد تفكير بالإستغناء عنهم وصناعة حاجياتنا بأنفسنا ، وهم سيعملون على المحافظة على سر المهنة لإبقاءنا بحالة التبعية لهم … لا دواء إلا بشروط، لا غذاء إلا بشروط ، لا تقنية إلا بشروط …
ماذا بعد التبعية … إنه الذل والهوان والإعتقاد بأننا لسنا قادرين على تقديم شيء وصناعة مجد وحضارة وتقديم خدماتنا للإنسانية ، فكل ذليل يرتكس ذله بين جنبيه لن يكون قادرًا على النهوض حتى يتخلص من مركّب النقص ..
إحتكار للمعرفة — > جهل — > ضعف — > تبعيّة — > ذل — > إعتقادات معرقلة عن العمل والنهوض …
هذا يستدعي لذاكرتي مثالًا مهمًّا …
البرمجيات الحرّة وتلك الإحتكاريّة ، مالفرق بينهما ؟
الأولى تؤمن أنه من حقك أن تحصل على حريتك في إستخدام البرنامج ودراسته وتعديله ونشره، بينما الأخرى تحتكر عليك ذلك كله .. إنها تقول لك : ليس من حقك أن تحصل على المعرفة، ليس من حقك أن تدرس كيف يعمل البرنامج ، عليك أن تبقى تبعًا لنا ، لا يجب أن تصبح قادرًا على صناعة برامجك بنفسك ، يجب أن تبقى تبعًا لنا ..
أيعقل بعد هذا كله أن نساهم نحن في الإحتكار مع أننا الطرف الضعيف والخاسر في المعادلة ؟؟
لماذا تكتب مجلة ثقافية عريقة توزع في أنحاء الوطن العربي بل والعالم على الصفحة الأولى أنه يمنع النسخ دون إذن الناشر ؟؟ مالذي يضر هذه المجلة لو ان طفلًا في العاشرة من عمره استعان ببعض أعدادها ليُعدّ موضوعًا عن البيئة مثلًا ..
النسخ هو أحد وسائل محاربة الإحتكار المعرفي الظالم الذي يمارس علينا كدول نخب ثالث …
لكن النسخ ممنوع في عالم الإحتكار الظالم، لذا فستراهم يسوقون القوانين تترى ليمنعوك من ممارسة حقك الطبيعي بالنسخ .. وأنا هنا لا أناقش أحقيّة حصولي على برنامج منسوخ دون أن أدفع ثمنه، لكنني أتساءل لماذا أحرم من حقي في نسخ البرامج التي قمت بشرائها بنقودي ؟؟
وهذا مادفعني لكتابة وثيقة عن الملكيّة الفكريّة لأناقشها من جوانب عدّة، وأبيّن مدى الزيف الكبير والخداع الذي يحيط بمصطلحات مثل ‘الملكيّة الفكريّة’ ، وسقت أمثلة تبين الخطر الكبير من جراء هذا النظام العالمي الظالم ومن ذلك أن شركة AT&T الأمريكيّة عملت في القرن التاسع عشر إلى تجميع براءات الاختراع لضمان احتكار الهواتف وأخّرت بذلك إظهار واستخدام جهاز الإذاعة المسموعة (الراديو) لحوالي 20 عام. وبصورة مشابهة سيطرت شركة General Electric على احتكار براءات اختراع لتأجيل إنتاج مصابيح فلورسنت Florescent والتي كانت تعتبر تهديدا لمبيعاتها من المصباح المتوهج Incandescent.
والأمثلة لا تكاد تنتهي …
لماذا ؟
تُبنى عقليّة الشح على فكرة ‘أنه لا يوجد من المصادر ما يكفي الجميع’ وهذا يعني أنه عندما تحصل على حصّةٍ ما من شيءٍ ما فأنت بذلك فوتّ عليّ فرصة للحصول على حصة أكبر … وهذه هي الفكرة التي توقظ مشاعر الحسد ، فالعمل لزوال النعمة عن الآخرين يأتي من الإعتقاد بأن حصول فلان على هذه النعمة سيحرمني أو يقلل من فرصتي في الحصول عليها …
وهذه فكرة خاطئة بالتأكيد …
بينما الخطاب القرآني عمل على بناء عقليّة الوفرة التي تقول ‘هناك من كل شيء ما يكفي الجميع’ ، ويستحضرني الآن قوله صلى الله عليه وسلم طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الثلاثة … أو كما قال …
الإحتكار أساسًا ممنوع في شريعتنا وفي الحديث الصحيح ‘لا يحتكر إلا خاطئ’ وقوله صلى الله عليه وسلم ‘من كتم علما جاء يوم القيامة وقد ألجم بلجام من نار’
بعد هذا كله يأتي من يريد أن يمنع الآخرين من أن يصلوا للمعلومات وللمعارف بحجج شتى، أظنها واهية لا تصمد أمام النقاش ..
كيف نحارب الإحتكار ؟
نشر المعرفة والمعلومات والمهارات ومحاربة الإحتكار من الأشياء التي تستفز طاقتي كلها (أشاهدني أحدكم وأنا أشرح أهمية البرمجيات الحرّة ؟) لذا فإن موضوعًا واحدًا لن يكفي ….
مبدئيًا لا تحتكر مصادر المعرفة والمعلومات ، استفد منها، وانشرها
لا تقلق يا عزيزي …. فالنسخ ليس سرقة …
الإحتكار .. المعرفة داخل صندوق أسود
disqus