التشبيهات تتغير، فقد كان شائعاً أن يوصف الدماغ بأنه مثل النظام هيدروليكي الموظف لإنشاء نوافير جميلة في حدائق أرستقراطيي القرن السابع عشر، ولكن مع تقدم التقنية أصبح من الشائع أن يُشبَّه الدماغ بشبكة تليغراف ثم بعدها أصبح تبادل المكالمات الهاتفية هو التشبيه المعتاد ، و الآن أتى دور الحاسوب، فما تشبيه الدماغ بالحاسوب إلا استعارة بلاغية ، إلا أن مجموعة من العلماء أرادوا تطبيق هذه الإستعارة لتصبح واقعا، فهم يريدا خلق حواسيب تُشابه الدماغ، وبهذه الطريقة فهم يؤمنون بأن البشرية لن تستطيع أخيراً فهم كيفية عمل الدماغ فحسب؛ بل أيضاً ستطور حواسيب أفضل و أذكى.
أصحاب مثل هذه الرؤى يصفون أنفسهم بمهندسي الحوسبة العصبية neuromorphic ، هدفهم وفقاً لـكارلهاينز ماير - وهو عالم فيزيائي في جامعة هايلدلبرغ ومن أحد قادتهم - هو تصميم حواسيب تحتوى على أحد -أو كل - الصفات الثلاثة التي يتميز بها الدماغ عن الحواسيب و هي : استهلاك طاقة منخفض ( الدماغ البشري يستخدم فقط ٢٠ وات بينما الكمبيوترات السريعة التي تحاول محاكاة عمل الدماغ تستهلك حالياً ما يصل إلى ميغاوات) والتعامل مع الخطأ ( فشل ترانزستور واحد كفيل بهدم المعالجات الدقيقة ، بينما يخسر الدماغ خلايا عصبية طوال الوقت بلا ضرر) و أخيراً عدم الحاجة إلى البرمجة ( تتعلم الأدمغة البشرية التكيف مع التغييرات بلا وعي من البشر خلال تعايشهم في العالم و لا تحتاج إلى اتباع منظومات معينة أو طرق محددة ).
على أية حال، لتحقيق هذه الأهداف، يجب على مهندسي العصبية تحويل التشبيه اللغوي ( الدماغ مثل الحاسب) إلى حقيقة ، و لأن لا أحد يعلم حقيقة كيف يعمل الدماغ حتى الآن، فيجب عليهم أن يحلوا هذه المشكلة بأنفسهم أيضاً، وهذا يعني أن عليهم تعبئة الفراغات الموجودة في الفهم البيولوجي للدماغ، وعمليا هذا يعني أن عليهم بناء خلايا دماغية افتراضية ( آلية) و إيصالها ببعضها البعض بطرق مختلفة و محاولة تقليد ما يحدث فعليّاً داخل دماغ الإنسان.
المشابهة التناظرية
الفجوة المتسعة في فهم علماء الأعصاب لموضوعهم تقع في المستوى المتوسط لتركيب الدماغ، فالعلم لديه معرفة معقولة في طريقة عمل الخلايا العصبية بشكل فردي، وأيضا يعرف كيفية عمل العقد و الفصوص الظاهرة في الدماغ، لكن كيف تترتب هذه الخلايا الفردية داخل الفصوص و العقود فإنه يظل سؤالاً غير معلوم الإجابة مع أن هذا الترتيب هو المسؤول عن التفكير الفعلي و من المحتمل أن يكون مقر الوعي.
لهذا، الربط و فهمه هو الهدف الأكبر من مبادرة الدماغ الأمريكية America’s BRAIN initiative، التي أُعلن عنها بصخب الرئيس باراك أوباما في أبريل، ربما قد تكون الطريقة الوحيدة لفهم ما يظهره الربط هو بمحاكاته على الحواسيب، وربما أيضاً التمثيل الحاسوبي سيأتي أولاً ليقود عملية الربط، وفي كلمات أخرى يمكن لمهندسي الحوسبة العصبية أن يكتشفوا المبادئ الرئيسية للتفكير قبل علماء الأعصاب.
تُجرى الآن اثنان من مشاريع الحوسبة العصبية الأكثر تقدما تحت رعاية مشروع العقل البشري (HBP)، كمحاولة طموحة من اتحاد لمؤسسات علمية أوروبية لبناء دماغ آلي في عام ٢٠٢٣. الحواسيب التي تبنى تحت هذين البرنامجين تستخدم طرق أساسية مختلفة، أحدها يدعى " سبايناكر" (SpiNNaker) يبنى من قبل ستيفن فوربر من جامعة مانشستر، "سبايناكر" هو حاسوب رقمي( أي كما هو شائع استخدامه من قبل الناس الآن) يعمل على تمرير البيانات كآحاد و أصفار حسب وجود القوة الكهربائية ولهذا فهو يحتوي في مركزه على شبكة من المعالجات المخصصة.
الآلة الثانية تدعى " سبايكي" (Spikey) تبنى من قبل مجموعة الدكتور ميير. تشبه "سبايكي" عصر بدايات الحوسبة، حيث كانت العديد من الحواسيب الأولية أجهزة تناظرية، أي أنها تعبر عن الأرقام كنقاط على تردد مستمر ، بمعنى أن نصف فولت يختلف بمعناه عن فولت واحد و فولت ونصف سيختلف معناه من جديد. تعمل "سبايكي" جزئيا بمثل هذا النظام، وقد خسرت الحواسيب التناظرية أمام الحواسيب الرقمية بسبب عدم غموض الحواسيب الرقمية مما يجعلها أقل عرضة للأخطاء ، لكن د.ميير يظن بأن الحواسيب التناظرية بسبب أنها تعمل بطريقة أقرب لبعض خصائص الجهاز العصبي الحقيقي ، فهي الأفضل في محاكاة تلك الخواص.
د.فوربر و فريقه يعملون على"سبايناكر" منذ عام ٢٠٠٦، ولاختبار الفكرة التي بنوها، أطلقوا قبل سنتين نسخة من "سبايناكر" تحتوى على مجرد ١٨ معالجا، و يعملون الآن على نسخة أكبر، أكبر بكثير ، آلتهم التي تحتوي على مليون معالجاً ستكون جاهزة في عام ٢٠١٤، مع هذا العدد من الرقائق، يعتقد د.فوربر بأنه قادر على محاكاة ما يقارب ١٪ من الدماغ البشري ، وإنه بشكل حاسم يظن بأنه يقدر على ذلك في الوقت الفعلي. حاليا حتى هذه الحواسيب العملاقة التي تستطيع محاكاة أجزاء صغيرة فقط من العقل البشري تقوم بتلك المحاكاة ببطء شديد بالمقارنة بسرعة الدماغ، طبعا لا يفكر د.فوربر بالتوقف هناك ، ففي عام ٢٠٢٠ يطمح د.فوربر بتطوير نسخة من "سبايناكر" بعشرة أضعاف قوة أداء الجهاز ذي المليون معالج.
يحصل "سبايناكر" على سرعته من خلال اللحاق بأمنية د.ميير الثالثة و هي عدم الحاجة إلى البرمجة. فعوضاً عن تمرير كميات كبيرة من البيانات تحت تحكم الساعة الرئيسية كما تفعل كل الحواسب المتطورة المعاصرة، معالجات "سبايناكر" تقوم بجلب دفعات صغيرة من البيانات متى ما تم الاحتياج لها، هذا يشابه عمداً كيفية عمل الخلايا العصبية، تسير الموجات عبر الخلايا العصبية كطاقة كهربائية تدعى"ممكنات العمل" و التي تحتوي على كمية صغيرة من البيانات بداخلها.
مثل هذا الارسال اللامتزامن( سمي بذلك لعدم وجود التزامن في الساعة الرئيسية) يستطيع الحاسوب معالجة البيانات بسرعة أكبر من الارسال المتزامن. لأنه لا يوجد وقت لإضاعته في انتظار الساعة لتدق، كما أنه أيضاً يستخدم طاقة أقل وبهذا هو يحقق أمنية د.ميير الأولى. كما لو فشل معالج سيستطيع النظام الإلتفاف حوله و بهذا تتحقق أمنيته الثانية. ولأنه بالضبط لا يمكن ترجمته بسهولة، يتجاهل أغلب مهندسي الحاسب الارسال اللامتزامن، ولكن كطريقة لمحاكاة الدماغ فهذا مثالي جداً.
وبالرغم من عدم -ربما- مثالية المنهج التناظري ، فإن د.ميير لم يتخل عن الطريق الرقمي تماماً، لكنه كان يقلل من شأن استخدامه حيث يستخدم مكونات رقمية ليحاكي عملية تبادل الرسائل بين نقاط الاشتباك العصبي- الوصلات بين الخلايا العصبية- ، مثل هذه الرسائل تُنقل باستخدام مواد كيميائية تدعى " الناقلات العصبية" والتي تعمل حسب مبدأ " ينتقل كل شيء أو لا شيء على الاطلاق" أي بمعنى آخر إنها تعمل بشكل رقمي.
إطلاق النواقل العصبية هو بدوره يعتبر ردة فعل لقدوم" ممكنات العمل"، الخلايا العصبية على أية حال لا تطلق أي ردات فعل حالما تستقبل هذه النواقل، بل تحتفظ بها حتى تصل إلى عدد معين من الإشارات ، وعندما يتم تخطي الحد المعين من الإشارات - عملية تناظرية بشكل أساسي- تقوم بإطلاق ردة فعل من نوع " ممكنات العمل" وتعيد ضبط نفسها. وهذا هو ما تفعله الخلايا العصبية الخاصة بسبايكي، إنها تبني الطاقة في المكثفات في كل مرة تجرى فيها عملية الإستثارة حتى تصل إلى عدد معين و حينها يتم تفريغ المكثفات.
هل التدريب يجعله مثالياً؟
في زيوريخ،يتبع مهندس الحوسبة العصبية في معهد المعلوماتية العصبية ( يعمل بالمشاركة مع جامعة زيوريخ و جامعة الهندسة في المدينة ETH ) جيمس اندايفري طريق التناظري أيضاً ، يعمل د.جيمس منفصلاً عنHBP و بهدف مغاير و عملي أكثر ، فهو يحاول بناء - باستخدام مبادئ الحوسبة العصبية- ما سمّاه ( نظم المعرفية المستقلة). كمثال، زراعة قوقعة يمكن أن تتعرف ما إذا كان الشخص الذي قام بتثبيتها في حفلة موسيقية أو في السيارة أو على الشاطئ و تُخرج مخرجات تناسب تلك الحالة، وفرض د.جيمس بعض الشروط على نفسه مثل أن يكون الوزن وحجم الصوت و استهلاك الطاقة مشابه لمثائلها الطبيعية، بالإضافة إلى أنها تتصرف مثلها قدر المستطاع.
جزء من المنهجية الطبيعية هو أن تعمل الترانزستورات كما يعرف تقنياً باسم " المجال دون العتبة sub-threshold domain"، وهي الحالة حينما يكون الترانزستور متوقف عن العمل( أي لا يجب عليه أن يمرر أي شيء، ولهذا هو يمثل صفراً في النظام الثنائي) لكنه في الحقيقة هو يسرب القليل ( بضعة آلاف أجزاء من المليون من الأمبير) و ذلك لأن الالكترونات تنتشر خلاله.
سابقاً في الثمانينات ، برهن كارفر ميد - وهو مهندس في معهد كاليفورنيا للتقنية و يعتبر الأب للبرمجية العصبية ( هو من صك مصطلح "neuromorphic) - أن المجال دون العتبة يعمل بشكل مشابه لبروتينات قنوات الأيون في أغشية الخلايا، قنوات الأيون -التي تنقل ذرات الصوديوم و البوتاسيوم المشحونة كهربائياً داخل و خارج الخلايا- هي مسؤولة عن - بالإضافة إلى أشياء أخرى- عن خلق ممكنات العمل. لهذا السبب استخدام المجال لدون العتبة هو طريقة جيدة لمحاكاة عمل ممكنات العمل ، و بعمل ذلك تستهلك الطاقة بشكل أقل ، تماما مثل النظام الحيوي.
تعمل أجهزة د.اندايفري أيضا بنفس سرعة الدوائر الحيوية ( بضع عشرات أو مئات من الهيرتاتز عوضاً عن سرعة القيقاهيرتز في معالجات الحاسوب) ؛ هذا يسمح لها بالتعامل مع دوائر الحيوية الحقيقة ، مثل الموجودة في الأذن كما في حالة زراعة القوقعة ، و أيضا لمعالجة الإشارات الطبيعية بفاعلية مثل الكلام البشري و الإيحاءات.
يعمل د.اندايفري حالياً على تطوير رقائق عصبية باستخدام مبدأ المجال دون العتبة ، تحتوي هذه الرقائق على خلايا عصبية افتراضية و الآلاف من نقاط الاشتباك العصبي، مع أنّ ذلك يبدو تافهاً مقارنة مع - على سبيل المثال- نظام د.فوربر ذو المليون معالج ، لكنه لا يحتاج الى غرفة كاملة ليحتويه، هذا الأمر مهم إذا ما كان هدفك العمل على الأطراف الاصطناعية.
على غير العادة، في مجال تقنية المعلومات ، الحوسبة العصبية محتكرة من قبل الباحثين الاوربيين عوضاً عن نظائرهم الأميركيين، لكن الى متى سيستمر هذا الوضع هو سؤال لأولئك الذين في الجانب الأخر من الاطلنطي الذين يحاولون بصعوبة اللحاق بالركب. وبشكل خاص، تقوم وكالة المشاريع البحوث المتقدمة للدفاع بتمويل المثيل الأمريكي لجزء الحوسبة العصبية من مشروع الدماغ البشري - نظام الحوسبة العصبية المتكيف لالكترونيات البلاستيك والذي يعرف اختصارا SyNAPSE - كما أنها تقوم أيضا بتمويل حاسبين عصبيين أخرين.
اليانكيز قادمون
أحد هذه الأجهزة صمم في معامل HRL في ماليبو، كاليفورنيا في قسم مملوك بالشراكة من قبل بوينج و جينرال موتورز. يقول ناراين سراينفسا - مدير المشروع- أن رقاقاته العصبية لا تتطلب سطراً برمجياً واحداً، عوضاً عن ذلك تتعلم بالفعل كما تتعلم الأدمغة البشرية في العالم الحقيقي.
خاصية مهمة في الأدمغة البشرية هي ما يعرف بشبكة العالم الصغير. كل خلية عصبية لها عشرات الآلاف من النقاط الاشتباك العصبية المتصلة بخلايا عصبية أخرى. هذا يعني أنه مع احتواء العقل البشري على حوالي ٨٦ بليون خلية عصبية، كل خلية لها اتصالان أو ثلاث إتصالات بجميع الخلايا الأخرى عبر مسالك لا تعدّ و لا تحصى.
في كلا الدماغين، الحقيقي و محاولات المحاكاة( من ضمنها الخاصة بد.سراينفسا) عملية تشكيل الذاكرة تتضمن تقوية بعض المسالك العصبية و قطع أخرى. و هذا يسمح للشبكة بمعالجة المعلومات بدون الحاجة إلى الاعتماد على برنامج حاسب تقليدي. مشكلة واحدة في بناء شبكات العالم الصغير في الأدمغة الإفتراضية هي تشبيك كل هذه الخلايا داخل نظام يحتوي على الكثير منها.
العديد من الرقاقات العصبية تفعل ذلك عبر ما يعرف بهندسة الربط المتعدد، هذه الطريقة تعني أن هناك كمية كثيفة من الأسلاك و كل واحد منها متصل بخلية عصبية في محيط الشبكة. نقاط الاشتباك العصبي هي نقاط الالتقاء لهذه التوصيلات، هذا سيعمل بشكل جيد في الدوائر الصغيرة لكنه يصبح أقل فاعلية كلما زاد عدد الخلايا العصبية.
لحل هذه المشكلة، طور د.سراينفسا ما يعرف بـ مضاعف الوقت التشابك synaptic time multiplexing ، بحيث كل نقطة إشتباك عصبية حقيقة تعمل عمل ما يصل إلى عشر آلاف نقاط إشتباك عصبية إفتراضية، حيث تتظاهر كل واحدة بأنها حقيقة بالترتيب لمدة مائة جزء من بليون جزء من الثانية.يتطلب مثل هذا النظام ساعة مركزية لترتب كل شيء. و يجب على هذه الساعة أن تعمل بشكل سريع، الدماغ بالعادة يعمل بين عشرة هرتز حتى مائة هرتز، وتعمل رقاقة د.سراينفسا على مستوي الميقاهرتز ؛ و لكن هذا يسمح لكل خلية عصبية اصطناعية من مجموعته البالغة ٥٦٧ خلية للتعامل مع بعضها البعض بنفس الوقت الذي يستغرقه مثيلاتها في نظام شبكي طبيعي.
و شبكات طبيعية في هذا الحجم موجودة فعلياً، سي.إليقانز هي دودة خيطية صغيرة و هي من أفضل الحيوانات التي تمت دراستها على الكوكب لأن مسار النمو الخاص بها وصفيّ تماماً، بالنسبة للخلايا الجنسية، كل دودة تحتوي إما على ٩٥٩ خلية ( إذا كانت ثنائية الجنس) أو ١٠٣١ ( إذا كان ذكراً، لا يتوفر جنس أنثوي صافي لدى الديدان الخيطية). في الديدان ثنائية الجنس، ٣٠٢ من الخلايا الخاصة بها هي خلايا عصبية، في الذكور يكون العدد ٣٨١ كما تحتوي الدودة على ٥٠٠٠ نقطة إشتباك عصبي.
على الرغم من هذه البساطة، لا يوجد حاسب عصبي استطاع تقليد النظام العصبي لهذه الدودة، لبناء آلة يمكنها فعل ذلك سيكون ذلك تطوراً من مستوى المبتدئ لمستوى الخبير في عرف مهندسي الحوسبة العصبية. يأمل د.سراينفسا بأن رقاقته ستثبت كونها التحفة المطلوبة.
في الوقت الحالي، و بعملية أكثر، يعمل هو وفريقه مع ايرو-فايرومنت ( مؤسسة تبني طيارات صغيرة تعمل بلا طيار لتطير مثلا حول مبنى بحثاً عن أي مشكلة) تستطيع أحد رقاقات هذا الفريق تقديم دماغ لتلك الطائرات بحيث تستطيع - على سبيل المثال- تمييز إذا ما زارت هذه الغرفة من قبل أم لا ؛ و ربما تكتشف إذا ما ثمة تغيير حصل فيها. نسخ مطورة من هذه الرقاقات ربما تستطيع أن تتسلم التحكم و تبدأ بالحوم بنفسها.
يُدار المشروع الآخر لسنايباس من قبل د.همندرا مودها في معمل IBM ألمادن في سان خوسيه، بالتعاون مع أربع جامعات أمريكية ( كولومبيا، كورنيل، جامعة كاليفورنيا، ميرسد و جامعة واسكنتون ماديسون)، بنى هو وفريقه نموذجاً لحاسوب عصبي يحتوي على ٢٥٦ خلية عصبية من نوع ( ادمج و اطلق) ، وسميت بذلك لأنها تخزن ( أي تدمج) المدخلات الخاصة بها حتى تصل إلى حد ما ثم تطلق حينها موجة و تقوم بإعادة تعيين نفسها.إنها بذلك تشبه الخلايا العصبية في سبايكي ، مع أن التفاصيل الالكترونية مختلفة لأن الذاكرة الرقمية استخدمت عوضاً عن المكثفات لتسجيل الموجات القادمة.
تحتوي رقاقة د.مودها على ٢٦٢ ألف نقطة إشتباك عصبية وهو ما يعني أنه بشكل حاسم يمكن للخلايا العصبية أن تعيد تشبيك نفسها كردة فعل للمدخلات التي استقبلتها، كما يحدث في العقل الحقيقي. و أيضاً كما هو في العقل البشري، هذه الخلايا العصبية تتذكر النشاطات السابقة الحديثة( أي نقاط اشتباك عصبية استخدمت) و تستخدم هذه المعلومة لتشذيب بعض الاتصالات و تطوير بعضها الاخر أثناء عملية إعادة التشبيك.
حتى الآن، استطاع د.مودها و فريقه تدريب حاسبهم ليلعب لعبة بونج ( إحدى أول و أسهل ألعاب الفيديو ) كما يستطيع حاسبهم تمييز الأعداد من صفر إلى تسعة ، في برنامج تمييز الأعداد، إذا كتب شخص ما رقما بخط يده على شاشة لمس، تستخرج رقاقات العصبية العلامات الفارقة المهمة للكتابة و يستخدمها ليخمن ما هو الرقم( على الأغلب بشكل صحيح) .
ربما يبدو هذا أمر بسيط، لكن القصد منه كان لإثبات مبدأ ، و الخطة القادمة هو التطوير و الإنتقال للمرحلة التالية.
أمر واحد معروف عن الهيكلة المتوسطة للدماغ أنها عبارة عن وحدات، القشرة المخية الحديثة - المكان الذي توجد فيه الخلايا العصبية و يبلغ حجمها ثلاثة أرباع الدماغ- مبنية من عدد كبير من الأعمدة و كلا منها يحتوي على حوالي ٧٠ ألف خلية عصبية. ينوي د.مودها على فعل شيء مشابه، باستخدام رقاقاته كبديل للأعمدة القشرية و بتوصيلها لانتاج حاسوب مشابه بصدق للعقل البشري، و هو فعلياً في طريقه إلى ذلك ، حيث استطاع محاكاة نظام يحتوي على مائة تريليون نقطة اشتباك عصبية و هو مقارب للرقم الموجود في العقل البشري.
ما بعد هذه المعرفة
يبقى -بطبيعة الحال- السؤال إلى أين ستصل بنا الحوسبة العصبية. في هذه اللحظة هي بدائية لكن اذا نجحت ربما ستسمح ببناء أجهزة بذكاء - أو ربما أذكى- من المخلوقات البشرية. الخيال العلمي ربما يصبح حقيقة علمية.
أيضا، ربما تتقدم الأمور بشكل أسرع مما يتصوره المراقب الخارجي المعتاد من أن الدماغ عبارة عن صندوق أسود منيع ضد العلم. بدأت الأموال تظهر في الصورة، فمشروع العقل البشري لديه ميزانية مقدرة ببليون يورو على مدار عقد من السنوات. والميزانية الاولى لمبادرة العقل بلغت مائة مليون دولار؛ لهذا فإن الحوسبة العصبية ستتطور بشكل جيد ، وإذا كان المقياس كل ما يهم، لأنه حقا هو مجرد مسألة ربط ما يكفي من مكافئات سلكونية للأعمدة القشرية ورؤية كيف تشذيب وتعزيز الاتصالات الداخلية الخاصة بها، فإنه يمكن أن يأتي جواب قريبًا.
المخلوقات البشرية تحب أن تفكر بأن عقولها أعقد عن باقي المخلوقات البسيطة و هو أمرصحيح، لكن الفرق الرئيسي المعروف بين العقل البشري و عقل القرد هو أنه أكبر، لهذا - ربما- يكون السؤال يتمحور حول توصيل المكونات المناسبة و جعلها تعمل بنفسها، و اذا تحقق ذلك ستتخذ الآلات من المخلوقات البشرية كحيوانات أليفة لها -كما صاغها مارفن مينسكي مؤسس مجال الذكاء الاصطناعي-.
هذه المقالة نشرت على مجلة إيكنومست بتاريخ 3 أغسطس 2013م، ترجمة سلاف علي، ومراجعة زايد السعيدي