مقدمة
يتعامل أغلب الناس من العالم المتقدم اليوم مع الحواسيب الشخصية بشكل أو بآخر. بحيث تستخدم أجهزة الحاسب في كل من المنزل و العمل. سواء للترفيه ،أو الحصول على معلومات ، أو كأدوات لتوسيع المدارك المعرفية والعقلية. والاعتقاد السائد لدى الكثيرين أنه كلما أراد شخص استخدام مثل هذه الأجهزة فأنه سيواجه واجهة المستخدم الرسومية (GUI). حيث نتوقع أن نتفاعل مع هذه الأجهزة بصورة أساسية عن طريق استخدام الفأرة ، والضغط على الأيقونات لتشغيل التطبيقات ، والتلاعب بنوافذ الشاشة المختلفة باستخدام أدوات تحكم رسومية. ولكن لم تكن القضية دائما بهذا الشكل. لذلك لماذا تم اعتماد الواجهة الرسومية على أجهزة الحاسب واعتبارها نمط التفاعل الأساسي ، وكيف تطورت هذه الواجهة لتصبح بهذا الشكل الذي نراها عليه اليوم؟
سنستعرض فيما يلي مقدمة مختصرة عن تاريخ واجهة المستخدم الرسومية. الموضوع ،كما قد تتوقعه، واسع ومتشعب. لذلك سنستعرض من خلال هذه المقالة النقاط الرئيسية بينما نعطي لمحة عامة عن تاريخ تطور هذه الواجهة على مر السنين.
ما قبل التاريخ
مثل ما حدث مع العديد من التطورات في تاريخ الحاسوب ، كانت بعض أفكار اعتماد الواجهة الرسومية على أجهزة الحاسوب موجودة حتى قبل ظهور تقنية كافية لتصنيع مثل هذه الأجهزة بفترة طويلة. حيث كان فانيفار بوش من أوائل الأشخاص الذين صرحوا عن وجود مثل هذه الأفكار. فقد كتب في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي عن جهاز أطلق عليه اسم ميمكس "'Memex”. تخيل بوش هذا الجهاز على شكل مكتب مزود بشاشتي عرض رسومية -يعملان عن طريق اللمس- ، مع لوحة مفاتيح وماسحة ضوئية. وعن طريق هذه الأنظمة يمكن المستخدم من الوصول لكافة المعارف البشرية باستخدام وصلات مشابهة في طريقة عملها عمل الارتباطات التشعبية (Hyperlinks) للشبكة العالمية. ولكن حتى هذه اللحظة ، لم يتم اختراع الحاسوب الرقمي بعد ، لذلك كان من الاستحالة تطبيق أفكار بوش على أرض الواقع ، ولهذا السبب لم تنتشر أفكاره على نطاق واسع ذلك الوقت.
ولكن ومع بداية سنة 1937م بدأت عدة مجموعات حول العالم بتصميم أجهزة الحاسوب الرقمية. ومع قيام الحرب العالمية الثانية زادت نسبة الدافعية والتمويل لاختراع آلات حساب قابلة للبرمجة. حيث كانوا بحاجة لمثل هذه الأجهزة للقيام بالعديد من الأمور بدئا من تقدير مواضع إطلاق النار من المدفعية إلى اختراق رموز العدو السرية. زود الإنتاج التجاري والمبدع للأنابيب المفرغة تقنيات المفاتيح الكهربائية السريعة والتي من شأنها أن حولت أجهزة الحاسوب إلى أجهزة مفيدة. وفي عام 1945 أعاد بوش النظر في أفكاره القديمة في مقالة بعنوان "كما كنا نعتقد” والذي نشرت في مجلة الأطلسي الشهرية (Atlantic Monthly) ، وكانت هذه المقالة هي التي ألهمت انجلبارت دوجلاس الصغير لمحاولة بتطبيق هذه الأفكار لبناء مثل هذه الأجهزة بصورة فعلية.
الأب الروحي لواجهة المستخدم الرسومية
أنهى دوجلاس درجته الجامعية في الهندسة الكهربائية عام 1948 واستقر بعد ذلك في وظيفة جيدة في معهد ناسا. على أية حال ، وفي أحد الأيام بينما كان ذاهبا للعمل ، راوده حلم بحب الظهور. حيث أدرك أن مهمته الرئيسية كمهندس ليست العمل على تطوير مشاريع صغيرة قد تعود بالنفع فقط على قلة من الناس وإنما أراد العمل على مشاريع تعود بالنفع على البشرية جمعاء. تذكر مقالة بوش السابقة وبدأ بالتفكير بالسبل التي من خلالها يمكن بناء آلة من شأنها أن تزيد من ذكاء الإنسان. حيث عمل خلال الحرب كمشغل رادار ، لذا ساعده ذلك في وضع تصور لنظام عرض مبني حول أنابيب الأشعة السالبة بحيث يمكن للمستخدم من بناء نماذج معلومات بشكل تخطيطي رسومي والوصول إلى النقاط المهمة بفاعلية.
دوغلاس في عام 1968م
تبين بعد ذلك أن الحصول على ممول لأفكار دوجلاس الجنونية كانت مهمة طويلة وشاقة. حصل على درجة الدكتوراة عام 1955 ، وحصل بعد ذلك على وظيفة في معهد ستانفورد للأبحاث ، حيث حصل على العديد من براءات الاختراع في مجال تصغير مكونات أجهزة الحاسب. وبحلول عام 1959 ، اكتسب دوجلاس الاعتراف الكافي للحصول على تمويل لأبحاثه من قبل القوات الجوية الأمريكية للعمل على أفكاره. نشر دوغلاس أفكاره عام 1962 في مقالته المؤثرة "زيادة الذكاء البشري”. جادل دوغلايس في ورقته هذه بأن الحواسيب الرقمية يمكن أن تصبح أسرع طريقة لـ"زيادة فاعلية الجنس البشري في التعامل مع المشاكل الصعبة والمعقدة ، والحصول على فهم يلائم احتياجاتنا الخاصة ، واستنباط حلول مناسبة للمشاكل التي نواجهها". لم يتصور دوغلاس أجهزة الحاسب كبديل للعقل البشري وإنما كأداة لتعزيزه وتحسينه. ومن إحدى الأمثلة الافتراضية التي تصورها باستخدام هذه التقنية هو قيام المهندس المعماري بتصميم بناية عن طريق استخدام برنامج مماثل لبرامج التصاميم المعمارية المستخدمة حاليا.
كانت هذه قفزة هائلة في التفكير بالنسبة لعام 1962. كانت الحواسيب الموجودة في تلك الفترة عبارة عن حاسبات عملاقة يتم التعامل معها باستخدام ما يسمى بـ"المعالجة بالدفعات”. حيث يقوم المستخدم بتقديم البرنامج على مجموعة من البطاقات المثقبة ، بحيث يقوم الحاسوب بتنفيذ البرنامج في الوقت المحدد وسيتم تسلم النتائج بعد عدة ساعات أو حتى أيام. حتى أن فكرة إدخال الأوامر في الوقت الحقيقي باستخدام محطات طرفية نصية (تسمى "مشاركة الوقت” ) اعتبرت فكرة متطرفة في ذلك الوقت.
عمل دوغلاس مع فريقه المتنامي لعدة سنوات على تطوير هذه الأفكار والتي توجت أخيرا وفي مظاهرة عامة أمام ألألاف من المهنيين بمجال الحاسوب عام 1968.
أصل كل العروض
كان العرض المقدم من قبل انجلبارت غاية في الروعة في مجال الوسائط المتعددة: كانت كاميرات التلفزة موجهة على وجهه ويديه و شاشات العرض الصغيرة التي يراها. كانت الكاميرات تتنقل بين تصوير المناظر الثلاث جيئة وذهابا ، وغالبا ما تعرض أكثر من مشهد على الشاشة الواحدة. هذا المستوى من العرض كان أمرا ضروريا ذلك أن الكثير من المفاهيم المعروضة كانت جديدة كليا. اطلق على هذا النظام اسم NLS أو نظام oN-Line ، وذلك لأنه كان مشبوكا بعدد من أجهزة الحاسوب.
كان نظام العرض مبني على تقنية الرسوم الخطية بحيث يمكن عرض كل من النص و السطور على نفس الشاشة. وبسبب محدودية ذاكرة الأجهزة ذلك الوقت، كان بالإمكان فقط عرض الأحرف الإنجليزية الكبيرة (uppercase) ، على الرغم انه كان يتم عرض هذه الأحرف باستخدام خط أفقي قصير مباشرة أعلى كل حرف.
جهاز عرض نظام oN-Line ولوحة المفاتيح والفأرة.
كانت أيدي دوغلاس تعمل على ثلاث أجهزة إدخال: لوحة مفاتيح من طراز آلة الكاتبة القديمة ، ولوحة مفاتيح "وترية" بمفاتيح خمسة بحيث مجموعات من المفاتيح الخمسة يمكن أن تولد 2^5 أو 32 مدخل منفصل تكفي لتمثيل جميع الأحرف الهجائية ، وصندوق مستطيل الشكل بحجم علبتي عصير مع ثلاثة أزار في الأعلى ، متصل بالحاسوب باستخدام سلك كهربائي طويل.
كان هذا الصندوق هو الفأرة المستخدمة في يومنا هذا ، اخترعه دوغلاس بنفسه وتم بنائه بواسطة أحد مهندسيه. لم يعرف البتة من بدأ بإطلاق هذا المصطلح عليه ، ولكن التصقت التسمية في ذلك الوقت وظلت باقية منذ ذلك الحين. في الحقيقة كانت (ميكانيكيا) مختلفة بعض الشيء عن الفأرة الحديثة بحيث كانت لها عجلتين دائرتين متصلتين بجهاز قياس الجهد الداخلي يحتكان بسطح الطاولة بصورة مباشرة بدلا من استخدام كرة صغيرة واحدة تدور حول المزلجات. ومع ذلك ، فإن طريقة عملها مطابق فعليا للفأرة الحديثة.
تم محاولة تجربة أدوات إدخال أخرى (مثل الأقلام الضوئية وشاشات اللمس) ، ولكن التجارب وجدت أن المستخدم يفضل استخدام الفأرة باعتبارها أفضل الطرق الطبيعية في التعامل مع مؤشر الشاشة ، وحتى اليوم لم تتغير هذه النظرة.
صورة مقربة على الفأرة ولوحة المفاتيح
رافق اختراع الفأرة اختراع المؤشر ، والذي كان عبارة عن سهم (شكل العصا) مشيرا للأعلى. اطلق فريق دوغلاس عليه اسم "بقة” ، ولكن هذا المصطلح لم يحظى بقبول في الوقت الحاضر. عندما تقوم "البقة” بتحديد مجموعة من العناصر فإنها تحيط بها بمجموعة من النقاط للدلالة على موضع التحديد.
بدت العديد من الأمور المذكورة في هذه الجولة الماراثونية وكأنها أفكار خيالية من المستقبل السحيق ، ومعظم المشاهدين لاقوا صعوبات جمة حتى في استساغة ما كانوا يشاهدونه. أظهر العرض العديد من الأفكار منها الوصلات التشعبية ، تحرير المستندات على الشاشة ، مساعدة السياق ، تبادل المستندات المشترك ، البريد الإلكتروني ، الرسائل الفورية وحتى فكرة مؤتمرات الفيديو! كان العرض لاعقلاني بعض الشيء ، حيث بسبب بعض القصور في نظام الفيديو ، كان من الصعب في بعض الأحيان معرفة ما يجري. فعلى سبيل المثال ، كان نظام NLS يدعم عرض نوافذ متعددة ، ولكن لم تكن هناك طريقة واضحة للدلالة على الحدود بينهما (مثل حدود النافذة ، أشرطة العناوين، الخ...).
شاشة من عرض نظام NLS. تشير الدائرة الحمراء إلى مؤشر الفأرة.
واصل دوغلاس وموظفيه العمل على هذه الأفكار الثورية حتى تم إغلاق المعهد لنقص في التمويل سنة 1989. ومع ذلك ، لم يكن هناك أبدا ما يكفي من المال لتحويل هذه الأفكار إلى منتجات تجارية. وتم تولي هذا العمل من قبل شركة يتذكرها أغلب الناس بعلاقتها بالورق القديم.
هذه المقالة تأتي في ثلاثة أجزاء :
الجزء الأول
الجزء الثاني
الجزء الثالث
ترجمة لمقال : A History of the GUI
ترجمت بواسطة : زاهر النوتكي