تاريخ واجهة المستخدم الرسومية -الجزء الثاني

نشره زايد في

زيوركس بارك

أبهر عرض دوغلاس انجلبارت عام1968 العديد من الناس ، كما أربك الكثيرين في الوقت نفسه. حيث فتح أعين الناس على ما يحمل عليهم المستقبل من تطورات في هذا المجال ، المستقبل الذي يتعاون فيه عدة مستخدمين من كل أنحاء العالم على تحرير مستندات إلكترونية من على شاشات أجهزة الحاسوب ثم إرسالها فورا بعد ذلك إلى مستخدمين آخرين عبر الشبكات الإلكترونية للاطلاع عليها. ولكن مثل هذا المستقبل (إلكتروني) ، لم يكن فأل خير لشركة زيوركس والتي صنعت مجدها عن طريق بيع آلات النسخ الورقية.
قررت إدارة شركة زيوركس العليا أنه من الأفضل لهم أن يقننوا هذه التقنية خوفا من الفناء الحتمي لشركتهم الورقية في هذا المستقبل الإلكتروني الغامض. لذلك قاموا بتشكيل مركز بالو ألتو للأبحاث (Palo Alto Research Center) أو PARC في عام 1970 للحيلولة دون وقوع ذلك.
صورة زيوركس ألتو زيوركس ألتو

انضم الناس إلى هذا المركز للعمل على مشاريع أحلامهم وذلك لمدة خمس سنوات ، حيث كانت لديهم الحرية المطلقة في القيام بأي عمل يحوز على اهتمامهم. مما ساعد في اجتذاب أشهر باحثي الحاسوب في ذلك الوقت ، حيث تم تخفيف ضغوط العمل إلى أبعد الحدود ، ومع ذلك كان الجو مليئا بالإثارة والحماسة. اعتقد باحثي المركز في ذلك الوقت أنهم بصدد اكتشاف مستقبل استعمال الحاسبات الإلكترونية ، ولكن للأسف انتهى بهم المطاف في صناعة آلات النسخ بدلا من ذلك.
اختراع طابعة الليزر كانت واحدة من أولى ابتكارات المركز حيث كانت بمثابة مكمل طبيعي لأعمال زيوركس التجارية. ولكن مثل هذه الطابعة كانت بحاجة لأجهزة حاسوب ذو قدرة رسومية عالية لإعداد مثل هذه المستندات. ونظرا لعدم وجود مثل هذه الأجهزة في ذلك الوقت ، قام المركز باختراع جهازه الخاص ، والذي أطلق عليه اسم التو (Alto)، والذي تم إصداره لأول مرة عام 1973م.
لم يكن جهاز ألتو (Alto) حاسوب صغير في حد ذاته ، على الرغم من إمكانية أدخال مكوناته في برج صغير يمكن وضعه تحت سطح المكتب بصورة ملائمة. كان العرض الرسومي أحد أهم ميزات هذا النظام، حيث كان كل من حجمه و شكله مطابق تماما لشكل الصفحة الورقية المطبوعة. كما جاء مزودا بدعم الرسومات القائمة على أساس الخطوط الأفقية في مستوى عرض 606*808. كما كان كل بكسل على الشاشة يعمل بصورة مستقلة حيث يمكن تشغيل أو إطفاء كل جزء على حده، وذلك بخلاف ما عليه المحطات الطرفية القياسية اليوم حيث بإمكانها من عرض رموز نصية ثابتة فقط ، وبعكس نظام NLS أيضا حيث باستطاعته عرض النصوص مع خطوط أفقية فقط. كما كان يحوي أيضا على لوحة مفاتيح ونسخة محسنة من فأرة انجلبارت ، ومرة أخرى بثلاثة أزرار. كما تحول مؤشر الفأرة نفسه إلى صورة رسومية ولأول مرة أخذ شكل السهم المألوف في يومنا هذا ، مع إمكانية تحوله إلى أشكال أخرى حسب المهمة التي يجري أدائها.

نظام ملفات ألتو

نظام ملفات ألتو.
كان البرنامج الأول الذي تمت كتابته لنظام ألتو يتسم بالبساطة مع واجهة رسومية بسيطة أيضا. فعلى سبيل المثال ، كان مدير الملفات يعرض قوائم الأدلة على شكل عمودين (مثل نورتن كوماندر) محاط بصناديق ، دون وجود أية نوافذ كما نعرفها اليوم. تم تطوير معالج كلمات (يدعى برافو) بحيث يمكنه عرض عدة خطوط وبأحجام مختلفة في الوقت ذاته ، ولكن واجهته الرسومية كانت مختلفة بعض الشيء بحيث كانت القوائم في أسفل البرنامج لا أعلاه. (في النهاية ، انضم مؤلف برنامج برافو -كارلس سيموني- للعمل لدى شركة مايكروسوفت ليقم بإعادة كتابة البرنامج ليصبح محرر كلمات نظام دوس المعتمد.) ، كان هناك أيضا محرر رسومات مشابه في طريقة عمله لبرنامج paint ، مع واجهة رسومية مختلفة قليلا.في النهاية ، أدرك الباحثون العاملون في مركز بارك أنهم بحاجة لواجهة رسومية ثابتة ، ولتحقيق ذلك كان عليهم اكتشاف شفرة مصدرية لبناء بيئة تطوير رسومية جديدة. وسميت هذه البيئة باسم سمالتالك Smalltalk، أول بيئة رسومية حديثة.

Smalltalk سمالتالك

صممت سمالتالك لتكون بيئة تطوير سهلة بحيث يستطيع أي مستخدم فهمها بكل بساطة ، وحققت هذه البيئة نجاحا ملحوظا في تحقيق هذا الهدف من عدة نواحي. كانت سمالتالك أول لغة برمجية كائنية التوجه ، حيث يتم احتواء شفرة وبيانات البرنامج ضمن وحدات مفردة أطلق عليها اسم كائنات objects ، وتتلخص فائدتها في إمكانية إعادة استخدامها مرات عدة من قبل برامج أخرى دون الحاجة لمعرفة التفاصيل الداخلية. كما كانت تحتوي أيضا على خصائص حديثة مشابهة للغة جافا كإدارة الذاكرة التلقائية مثلا، بحيث تساهم في التخفيف عن المستخدم في القيام ببعض الأعمال الصعبة. كانت بيئة تطوير سمالتالك هي نفسها واجهة المستخدم التي يعمل عليها التطبيق. قدمت أيضا العديد من مفاهيم واجهة المستخدم الحديثة. بدأت هذه البيئة بالتبلور عام 1974 وتم تحديثها وتحسينها بصورة مستمرة.
سمالتالك كانت عبارة عن بيئة تطوير رسومية (مثلها مثل أي بيئة تطوير رسومية حديثة) ، ولكنها كانت أيضا البيئة التي تشتغل عليهابرامجها. بحيث كما لو أن شركة مايكروسوفت قامت بتطوير فيجوال ستوديو كبرنامج مستقل وهو في الوقت ذاته نظام تشغيلي تعتمد عليه برامج أخرى. فيمكنك تشغيل سمالتالك من مدير الملفات مثله مثل أي تطبيق آخر ، ولكن بمجرد تشغيله سيقوم بتولي مهمة عرض بيئة ألتو كاملة.

سمالتالك

بيئة واجهة المستخدم الرسومية ومنصة تطوير سمالتالك.
اشتملت نوافذ نظام سمالتالك على حدود رسومية حتى تبرز النوافذ بوضوح مقابل لون الخلفية الرمادي. كان لكل نافذة شريط عنوان خاص في الجانب العلوي بحيث يمكن استخدامه في تمييز كل نافذة على حدة أو حتى لتحريكها لأي موضع بالشاشة. وبصورة مشابهة لنظام BeOS ، لا يمكن تمديد شريط العنوان بطول النافذة ولكنه يبدأ من الجانب الأيسر العلوي ويمتد بقدر طول عنوان النافذة فقط. يمكن أن تتداخل النوافذ مع بعضها البعض ، ويمكن للنافذة المحددة أن تظهر نفسها في أعلى كومة النوافذ المفتوحة. في هذه الفترة تم اكتشاف مفهوم "الأيقونات” بحيث يمكن النقر عليها لتقوم الأيقونة بتشغيل التطبيق الممثل لبرنامج أو ملف معين. كما تم اكتشاف القوائم القافزة، بحيث يمكن النقر على أحد أزرار الفأرة لتظهر قوائم رسومية بصورة تدريجية في آخر موضع لمؤشر الفأرة. كما ظهرت لأول مرة كل من أشرطة التمرير ، وأزرار الاختيار و صناديق الحوار.
شكل الجمع بين كل من سمالتالك وألتو في تصميم جهاز حاسوب شخصي حديث ذو واجهة رسومية مماثلة لتلك التي نستخدمها اليوم. كان نظام ألتو يدعم الربط الشبكي مع إمكانية إرسال واستقبال البريد الإلكتروني ، حيث بدا في ذلك الوقت مثالي جدا للاستخدام المكتبي. كان فريق بارك يرغب أن تسوق الشركة جهاز ألتو 3 الجديد القليل التكلفة كمنتج تجاري بحت (لم يكن الجهاز الأصلي متاحا للبيع) ولكن أدارة الشركة رفضت ذلك.
وفي نهاية المطاف ، تم إصدار نسخة من جهاز ألتو ،و معالج نصوص ألتو 8010، والذي تم عرضه للعامة عام 1981 بقيمة 17،000 دولار أمريكي. كان يحتوي على بعض الاختلافات عن سابقه ألتو حيث تم إزالة خاصية تداخل النوافذ لما تسببه من إرباك للمستخدم. وبدلا من ذلك ، تم استخدام النوافذ المصفوفة. على الرغم من أهمية هذه الإصدارة ، إلا أنها جاءت متأخرة جدا ، و متأخر جدا بحيث أن زوريوكس فقدت أغلب باحثيها المتميزين ؛ بعد انضمامهم للشركات المنافسة.
 

جهاز زيوركس

لقطة للشاشة من جهاز زيوركس. لاحظ ترتيب نوافذ التطبيقات.

نظام أبل

كانت بداية إحدى أشهر البيئات الرسومية تتمثل في ورشة عمل لكل من ستيف جوبس وستيف أوزنياك عام 1976م ، أطلق عليه فيما بعد جهاز أبل. بنت هذه الشركة ثروتها من خلال نظامها المشهور أبل Apple ، حيث كان بإمكانه عرض كل من النصوص والصور الرسومية في نفس الوقت، ولكن كان يعتمد على واجهة سطر الأوامر التقليدية. بدأت شركة أبل مشوارها كشركة صغيرة ولكن بعد فترة وجيزة وجدت نفسها ثرية وعلى استعداد لتحمل المزيد من المغامرات. حصل العديد من مهندسي مشروع زيوركس بارك على وظائف في شركة أبل ، ليشرعوا بعد ذلك في إعادة تنفيذ مشاريعهم السابقة في كل من ألتو وسمالتاك ومحاولة تطبيقها للحصول على مشروع يمكن أن يرى النور كمنتج تجاري مما يزيد من احتمالية ارتفاع نسبة شهرته وشعبيته.
لذلك ، قام مهندسي بارك بالعمل على تطوير جهاز ليسا ، أحد أجهزة الجيل القادم من شركة أبل وذلك بعد قدومهم لشركة أبل ، حيث بدأ هذا النظام مشوار حياته كجهاز ذو واجهة نصية وليعمل خصيصا للأعمال التجارية. بعد ذلك غير ستيف جوبس رؤيته في استخدام الواجهة الرسومية في التعامل مع أجهزة الحاسب بدل من استخدام الواجهة النصية وذلك عندما قام موظفيه بتعريفه على مرافق بارك. لذلك من المقرر أن يصبح نظام ليسا من الآن فصاعدا حاسوب رسومي ، ولكن رغم ذلك لم يتمكنوا من تصميم واجهة مستقرة حتى الآن.

 نموذج ليسا المبدئي

نموذج لواجهة استخدام جهاز ليسا المبدئية حوالي عام 1979م
تم عمل العديد من نماذج واجهة استخدام ليسا من شركة أبل ، بما فيها أحد الواجهات المبنية على المهام أطلق عليها اسم "العشرون سؤالا” لأنها تستغرق ذلك الوقت الطويل ليصبح الحاسوب جاهزا لأداء أي مهمة ، كما كان متصفح الملفات المستخدم مكون من أربعة أعمدة مماثل لما ظهر مع سمالتالك والذي من المحتمل أن يظهر لاحقا في كل من NeXTstep و Mac OSX. استقر فريق ليسا أخيرا على استخدام واجهة تعتمد على الأيقونات بحيث تشير كل أيقونة إلى مستند أو تطبيق معين ، كما قاموا بتطوير شريط القوائم المنزلق لأول مرة ، حيث ظهرت جميع القوائم في أعلى الشاشة.
ومن إحدى إبداعات فريق ليسا كانت فكرة ظهور علامة جنب عناصر القائمة المحددة ، ومفهوم استخدام اختصارات لوحة المفاتيح لأكثر أوامر القائمة استخداما. كما قام الفريق بتغيير بعض قناعات مؤسسة بارك ، مثل استبدال أشرطة التمرير ذو الأحجام النسبية واستبدالها بأشرطة ذو ارتفاع ثابت. كما أضاف بعض المفاهيم الجديدة مثل وجود سلة مهملات لتخزين الملفات المراد حذفها ، وفكرة تلوين خيارات القائمة الغير مفعلة باللون الرمادي الباهت. كما تم تغيير تصميم شكل الفأرة من ثلاث أزرار (تم تبسيطها في نظام ستار من أبل لتكون زرين فقط) إلى زر واحد فقط بالنسبة لنظام ليسا. وبما أن الواجهة بحاجة إلى حدثين متتاليين على الأقل لكل أيقونة (تحديد وتشغيل) تم ابتكار فكرة النقر المزدوج لتوفير مثل هذه الوظيفة. بعد ذلك ، أصبحت هذه الفكرة الطريقة الافتراضية لتشغيل البرامج على جميع الواجهات الرسومية ، حتى مع تلك التي تستخدم فأرة ذو أزرار متعددة.
ابتكرت واجهة نظام ليسا عدة مفاهيم أخرى والتي ما زلنا نستخدمها حتى اليوم. وفي حين كان الأيقونات تمثل الملفات في كل من سمالتالك و نظام زيوركس -ستار- ، كانت واجهة نظام ليسا أول من ابتكر فكرة استخدام الأيقونات في تمثيل جميع الملفات في نظام الملفات ، بحيث يمكن استعراض الملفات من خلال استخدام هيكلة الأدلة الهرمية بحيث يتم فتح كل دليل في نافذة مستقلة. كما تم ابتكار فكرة "اسحب وألقي” لأول مرة ، بحيث جاء مفهوم "اسحب وألقي” لمعالجة الملفات (على سبيل المثال ، يمكنك تحديد مجموعة من الملفات بالفأرة وتقوم بسحبهم لمجلد جديد ليتم نسخهم) كتطور طبيعي لهذا المفهوم. ومن الأفكار المهمة - غير مرئية- لواجهة المستخدم كانت فكرة فرود الموارد "resource forks” والذي يحتوي على معلومات عن الملف بصورة منفصلة عن الملف نفسه ، ومن الأفكار أيضا جاءت فكرة "creator classes” بحيث يتم تحديد برنامج معين بشكل افتراضي لتشغيل كل نوع من أنواع الملفات بمجرد الضغط عليه.

صورة ليسا النهائية

واجهة استخدام نظام ليسا النهائية
إحدى التحسينات الحرجة المقدمة من فريق ليسا جاءت من قبل أحد مهندسي شركة أبل والذي لم يكن موظفا سابقا لبارك (PARC) ، ولكن شاهد عرض سمالتالك. اعرب عن اعتقاده أنه شاهد قدرة ألتو في إعادة رسم أجزاء من النوافذ غير مفعلة عند تحريك النافذة القابعة فوق تلك النوافذ ، أطلق على هذه الميزة اسم "المناطق”. في الحقيقة ، لم يكن نظام ألتو يملك هذه القدرة ، وإنما عندما يقوم المستخدم باختيار نافذة معينة يقوم البرنامج برسم النافذة كاملة لا أجزاء منها. وعلى الرغم من صعوبة هذه المهمة ، تم تطبيق مفهوم المناطق في الهندسة المعمارية لنظام ليسا ولا يزال يستخدم في واجهات المستخدم الرسومية حتى يومنا هذا. (حاول تحريك نافذة المتصفح مثلا فوق نافذة مستند وورد. فإذا كنت حاد النظر فيمكنك ملاحظة أي أجزاء النافذة تم إعادة رسمها).
بدأ العمل على هذا النظام عام 1979 ولكن لم يتم إصدار الحاسوب حتى عام 1983. على الرغم من مميزاته المتقدمة ، فان ثمن الجهاز بلغ 10.000 دولار أمريكي ، وبسبب صعوبة كتابة برامج لهذا الجهاز الجديد فإن أسعاره انخفضت. لذلك كانوا بحاجة لإصدار نسخة أقل تكلفة من نظام ليسا ، وكانت هذه المهمة ملقاة على عاتق ستيف جوبس نفسه. ولكنه تمكن بعد ذلك من تحقيق الهدف من خلال تصميم جهاز قليل التكلفة بعد تزويده بشاشة عرض 9 بوصات أحادية الألوان (512*384 بكسل) ، مع ذاكرة محدودة بلغت 128 كيلوبايت ، ولا وجود لخاصية تعدد المهام أو القدرة على الانتقال من برنامج لآخر ، كما جاء مزودا بمشغل أقراص مرنة وحيد. تم تقديم هذا الجهاز للعالم في صورة دراماتيكية عام 1984 بقيمة وقدرها 2.495 دولار. احتفظ هذا النظام بأغلب خصائص نظام ليزا كما احتوى على بعض شفراته المصدرية، ولكن تم كتابة البرنامج التشغيلي نفسه من الصفر حتى يلائم ذاكرته المنخفضة.

صورة ماكنتوش 1

نظام ماكنتوش 1

هذه المقالة تأتي في ثلاثة أجزاء :

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

ترجمة لمقال : A History of the GUI

ترجمت بواسطة : زاهر النوتكي