تشهد الساحة التقنية في العديد من البلدان العالم حراكا واضحا لاعتماد البرمجيات الحرة والمفتوحة المصدر في مناهجها الدراسية والاقتصادية، نتيجة لما اكتشفته من مستقبل مهني وتقني واعد لاقتصادياتها على المدى الطويل.
وفي الواقع تلعب البرمجيات الحرة دورا ملموسا لتشجيع النجاح والابتكار ومشاركة المعرفة بين جميع مجتمعات التقنية حول العالم، متخطية الكثير من العوائق المادية والفكرية التي تحد من نشر المعرفة التقنية من مثل براءات الاختراعات والملكيات الفكرية وحقوق استخدام البرمجيات وتعديلها على حسب مقتضيات العمل والوظيفة.
تعود بدايات أو جذور البرمجيات الحرة إلى بداية عصر الحوسبة نفسه، ففي عقد الستينات والسبعينات من القرن الماضي كانت البرمجيات توزع على شكلها الخام، متاحة للتعديل والمشاركة من دون قيود ولا اتفاقيات عدم إفصاح الأسرار. لقد كانت ثقافة عامة للمبرمجين والمطورين و الهواة على حد السواء.
من أبرز الأمثلة لمثل هذه الثقافة في تلك المرحلة نظام برمجي أنتجته شركة IBM يدعى برنامج التحكم الجوي ACP ، ويعتبر من البرامج الأولى التي اتبعت فلسفة البرمجيات الحرة والمفتوحة المصدر. هذا البرنامج عبارة عن نظام لإدارة الحجوزات وما يتعلق بها من مهام من مثل حجوزات الفنادق، لقد كانت شفرته المصدرية متوفرة بالكمال لأي مطور لأن يعدل فيها أو يحسنها أو يصلح عللها، ثم ترسل الإصلاحات بعد ذلك إلى شركة IBM لدمجها في البرنامج الأصلي وإعادة توزيعها.
لقد كانت البرمجيات تنتج في بيئات أكاديمية والمختبرات مما يجعل ثقافة المشاركة مناسبة تماما لتلك المرحلة، إلا أن الأمور بدأت تتغير جذريا مع نهاية عقد السبعينات، حيث ارتفع الطلب على البرمجيات وتخصيصها لمهام معينة، مع فصل تكلفة العتاد عن تكلفة البرمجيات، مع الانزياح العام من المختبرات إلى الشركات التجارية، كل ذلك جعل فكرة الربح المادي تسيطر على العقلية السائدة آنذاك.
كان من أبرز ملامح تلك التغييرات رسالة بيل جيتس (كان أحد مؤسسي مايكروسوفت في تلك الفترة) المفتوحة إلى مجتمع الهواة في عام 1976م، حيث ندد بفكرة مشاركة البرمجيات وعتبرها سرقة يجب أن يطرد صاحبها من أي اجتماع.
ففي عام 1975م بدأ بيل غيتس وبول ألن ببرمجة مفسر للغة بيسك يدعى ألتير بيسك جديد في شركتهم الناشئة مايكروسوفت، ومن أجل هذا الغرض قاموا باستئجار موظف جديد لتطوير، البرمجة استغرقت شهرين وبقية السنة قاموا بعمل توثيق للمفسر وتحسينه وإضافة مميزات جديدة إليه، تكلفة العمل فاقت أربعين ألف دولار.
يقول جيتس أن استجابة المجتمع إلى اللغة الجديدة كانت جيدة وإيجابية، ولكنهم لاحظوا أن نسبة من اشتروا ألتير بيسك قليلة وذلك راجع إلى أن الهواة ينسخون البرنامج الجديد ولا يشترونه، والأرباح التي حصلوا عليها كانت لا تشجع على إكمال المشروع.
هنا ينبري بيل جيتس إلى توضيح نقطة جديدة في عالم التقنية، وهي أن البرامج يجب أن يدفع لها بالمثل كما يدفع إلى العتاد، لأن تطويرها يحتاج إلى موارد بشرية كبيرة.
ويصف بيل جيتس أن نسخ البرامج هو "سرقة" بمعنى الكلمة، وأنه من غير العدل عدم الدفع للبرامج، لأنهم في ألتير بيسك لا يتسطيعون تقديم عمل متقن من دون مقابل. ثم يؤكد بأنه لا توجد لديهم رغبة بتوفير برمجياته الجديدة إلى الهواة وأنه لا يوجد حافز مثير لهذا الغرض، بل أن عملية نسخ البرامج هي سرقة وهي تعطي صورة مشوشة للهواة ولهذا يجب أن يطرد من يقوم بها من أي اجتماع!
إن لهجة الرسالة يمكن النظر إليها بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة، وبعد نجاح البرمجيات الحرة في العديد من القطاعات على أنها تتسم بمغالطات وتوقعات غير موزونة، وحماس أكثر من اللازم للدفاع عن فكرة البرمجيات المملوكة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الرسالة جاءت تعبير للتغيرات الحاصلة في ذلك الوقت، حيث تحولت الكثير من الشركات إلى تقديم حلول وبرمجيات تجارية مغلقة مع حمايتها باتفاقيات مجحفة بشكل كبير لحرية المستخدم، وكان من أوائل الأنظمة التي تحولت لأن تكون برمجيات مملوكة هو نظام يونكس، فبعد أن كان يوزع ويتاح مصدره بشكل مجاني، أصبح الجامعات لا تحصل عليه إلا بعد توقيع اتفاقيات عدم إفصاح عن الأسرار وتراخيص تجارية معقدة.
كل هذه التغييرات ما كانت لتعجب خريج معهد ماساتشوستس للتقنية- وهو من أشهر المعاهد العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية- لعام 1974م الفاضل ريتشارد ستولمن، والذي عمل في مختبرات المعهد بعد ذلك على تقنيات الذكاء الاصطناعي وبرمجة الأنظمة الصعبة، والذي أعجب بثقافة مشاركة البرمجيات والمساهمة في تطويرها وعدم تقييد حريات المستخدمين بل تشبع إلى النخاع بثقافة المشاركة وأصبح من الهكر المشهورين ( نقصد بالهكر الجانب الأخلاقي وليس ما يتبادر إلى الأذهان من المخربين ومخترقي الأنظمة)، حتى أنه عندما قام المعهد بتثبيت نظام التحكم بكلمات المرور في عام 1977م ، وجد ستولمن طريقة لفك تشفير كلمات المرور فقام بإرسال رسائل إلى كل المستخدمين بكلمات مرورهم الحقيقة، مقترحا عليهم بأن يستبدولها بلا شيء ، حتى يعيد حرية الوصول للنظام لكل شخص!
وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير حدثت عام 1980م، عندما منع ستولمن وزملاءه في العمل من الوصول إلى شفرة المصدرية لتعريف الطابعة الجديدة، لقد تعود ستولمن على تعديل تعريف الطابعات لإضافة بعض المميزات التي تسهل عليهم مهام الطباعة، حيث كانت الطابعة في طابق مختلف، وقد تعود على إضافة ميزة التنبيه الالكتروني عندما تنتهي الطابعة من مهمة الطباعة الخاصة به، بالإضافة إلى تنبيه كل المستخدمين عندما تتعطل الطابعة. مما لا يضطر إلى الخروج من مكتبه للتأكد من أمر الطباعة الذي ارسله قد أنجز أم لا.
لقد تركت هذه الحادثة أثرا عظيما في نفس ستولمن جعلته يقتنع بحرية الأفراد في تعديل البرمجيات التي يستخدمونها، وفي عام 1983م أطلق ستولمن مشروعه الكبير GNU project وهو مشروع يهدف إلى إنشاء نظام تشغيلي بكل أدواته، فقط من أجل هدف واحد ألا وهو حرية البرمجيات.
وسنكمل معا في الجزء التالي من هذه السلسلة ما هي فسلفة البرمجيات الحرة الذي سيأسسها ستولمن في مشروع جنو، وكيفية انتشارها في العالم التقني.
[ هذ سلسلة من المقالات تحوي على أحد عشر مقالة قمت بكتابتها ونشرها في جريدة الرؤية العمانية في الربع الأخير من 2010م، أعيد نشرها هنا لتعم الفائدة وهي بنفس الرخصة موقع وادي التقنية الإبداع المشاع ]