في معظم الدول النامية التي تعتمد البرمجيات الحرة يكون السبب الرئيسي هو تخفيض الكلفة، ولكن في البرازيل الأمر يختلف قليلا فبالرغم من أن تخفيض الكلفة يلعب دورا رئيسيا خصوصا مع بلدٍ نامٍ مثل البرازيل إلا أن الحكومة البرازيلية قررت اعتماد البرمجيات الحرة كخطة تطويرية للنهوض بقطاع تقنية المعلومات وزيادة التنافس بين الشركات و توفير عدد كبير من الوظائف للبرازيلين بالإضافة إلى زيادة الاستثمار في قطاع البحث والتطوير و صنع برامج جديدة.
في عام 2003م بدأت الحكومة البرازيلية المنتخبة باعتماد البرمجيات الحرة قانونا لقبول البرمجيات في القطاع الحكومي، وبالرغم من أن البرمجيات الحرة كانت معروفة سابقا إلا أنها خطت خطوات كبيرة بعد هذا القرار الحاسم في تاريخ البرمجيات الحرة في البرازيل.
يمكن إرجاع الأسباب الرئيسية لاعتماد البرمجيات في هذا البلد النامي إلى ثلاثة أسباب: اقتصادي و تطويري و فلسفي.
السبب الاِقتصادي : لعل أبسط طريقة لشرح هذه النقطة هي أن تعرف أن عدد سكان البرازيل يبلغ قرابة 192 مليون نسمة، ويبلغ معدل الدخل للفرد ثمانيةَ آلاف دولار في السنة أي بمعدل 250 ريال عماني في الشهر، وبالرغم من ذلك فإن أكثر من 31 بالمئة من الشعب يعيشون تحت مستوى خط الفقر.
في عام 2001م، دفعت الحكومة الفيدرالية 1.1 مليار دولار قيمة تراخيص البرامج التجارية المملوكة، وتدفع الحكومة البرازيلية لكل حاسوب لشركة مايكروسوفت 500 دولار في عام 2005م. وتظهر احصائيات 2003م أنه فقط عشرة بالمئة من سكان البرازيل يمتلك حاسوب منزلي وأن الحكومة هي أكبر مستهلك للحواسيب.
نأتي الآن إلى الاحصائيات المثيرة كيف أن البرمجيات الحرة حفظت ملايين الدولارات للحكومة، ففي 2010م أعلنت البرازيل أنها استطاعت توفير 500 مليون دولار أمريكي من قيمة تراخيص البرمجيات المملوكة منذ أن أعتمدت البرمجيات الحرة في عام 2003م.
السبب الثاني تطويري، لا يخفى عليك أيها القارئ الكريم أن البرمجيات الحرة تحمل أسبابا قوية تجعل الحكومات تؤمن بأنها الوسيلة المثلى لتحقيق التطوير في بنية تقنية المعلومات في أي بلد، فبالإضافة إلى توفر الشفرة المصدرية للبرمجيات الحرة والتي تفتح آفاقا كبيرة لتنمية خبرة الكوادر المحلية في مجال البرمجة والتطوير والانخراط في مجتمعات تطويرية أكبر حول العالم، فإن البرمجيات الحرة تساهم بشكل كبير في إنشاء قطاع أعمال جديد يعتمد على تقديم خدمات وبرمجيات تناسب احتياجات الناس في البرازيل.
ظهرت العديد من الشركات الضخمة التي توفر حلولا تقنية تعتمد على البرمجيات الحرة، كذلك تنتج توزيعات جنو/لينكس مخصصة للبرازيل وتتميز بجودتها العالية.
أحد الجوانب التطويرية التي ساعدت البرمجياتُ الحرة في إنجاحها هي المراكز المعرفية أو ما يطلق عليها Telecenter ، تعتمد فكرة المراكز المعرفية على توفير طرق اتصال بالانترنت لكل الشعب البرازيلي، فبالرغم أن الاقتصاد البرازيلي هو عاشر أكبر اقتصاد في العالم إلا أنه غير متوازن بالمرة، فعشرة بالمئة تمتلك نصف الثروة في البلد ، بينما بقية الشعب تعيش في حالة فقر مُزرٍ. وفي عام 2005م، أظهرت الاحصائيات أن تسعة من عشرة أفراد لم يستخدموا الانترنت على الإطلاق، وهذا ما أشعر الحكومة بجحم الفجوة الرقمية التي يعيشها المجتمع، لذا قررت بأن تفتح مراكز معرفية توفر طريقة اتصال بالانترنت للناس التي لا تستطيع حالتها الاقتصادية توفير مثل تلك الوسائل. ومنذ 2002 م فإن كل المراكز المعرفية صارت تستخدم: جنو/ لينكس نظاما تشغيليا لحواسيبها، وفي عام 2008 كان هناك أكثر من ألفي مركز معرفي كلها تستخدم البرمجيات الحرة وتخدم أكثر من أربعة ملايين مستخدم من ذوي الدخل المحدود .
السبب الثالث هو فلسفة البرمجيات الحرة، ففي السبعينات والثمانيات من القرن الماضي سادت ثقافة حب المشاركة وعدم التقيد في الوسط الثقافي البرازيلي، فالثقافة معهم خليط من الأفكار و الآراء يستطيع المرء أن يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء من دون أي قيد وخصوصا في الفن والموسيقى، كل هذا أثر على نزعة البرازيل إلى البرمجيات الحرة واعتمادها عليها، بسبب أن ثقافتها تتناسب مع ثقافة الشعب البرازيلي في حب المشاركة والإبداع وعدم التقييد بقيود التراخيص وحقوق الملكية المعقدة.
دعوني الآن نستعرض أهم معالم اعتماد البرمجيات الحرة في البرازيل، نبدأ أولا ببنك البرازيل وهو أكبر بنك عام في البرازيل يملك أكثر من مئة ألف محطة عمل، وأكثر من ستة الالاف خدوم و 42 ألف مكينة سحب ATM. بدأ بنك البرازيل باستخدام البرمجيات الحرة في عام 2001م ومنذ ذلك العام قام بنشر أكثر من ستين ألف نسخة من الحزمة المكتبية أوبن أوفيس بدل حزمة مايكروسوفت أوفيس مخفضا سبعين بالمئة من قيمة تراخيص حزمة أوفيس من ميكروسوفت. وقام بنقل أكثر من 5500 خادوم و 57 ألف محطة عمل إلى نظام جنوم لينكس، موفرا بذلك أكثر من ثلاثين مليون دولار من قيمة تراخيص البرمجيات.
في عام 2009م قررت وزارة التعليم بالبرازيل استخدام تقنية التخيلية ونشر أكثر من 324 ألف سطح مكتب تخيلي في المدارس في كل مناطق البرازيل، تعتمد بشكل أساسي على نظام جنو/لينكس، موفرة أكثر من 47 مليون دولار من قيمة الأجهزة والبرمجيات، وتسعة ملايين دولار من تكلفة الطاقة سنويا. وبهذه الخطوة تكون البرزايل أكبر ناشر لنظام جنو/ لينكس والمكاتب التخيلية للمدارس في العالم.
وفي عام 2010م أعلنت وزارة التعليم البرازيلة أنها قد اختارت نظام جنو/لينكس توزيعة ماندريفا كنظام تشغيلي لخطتها لاستخدام الحواسيب في تحسين العملية التعليمية في البرازيل ؛ و سيكون العتاد من سلسلة انتل المخصصة للتعليم classmate . يبلغ عدد الأجهزة التي تخطط الوزارة توزيعها قرابة مليون ونصف جهاز.
ويجدر بنا أيضا ونحن نتكلم عن البرمجيات الحرة في البرازيل التكلم عن الصعوبات التي واجهتها الحكومة البرازيلة في نشر البرمجيات الحرة وتتمثل في صعوبة توفير البرمجيات الحرة مترجمة إلى اللغة البرتغالية البرازيلية وذلك لقلة المتطوعين في الترجمة، ثانيا صعوبة اقناع الناس بالانتقال إلى المنصة الجديدة وذلك لما يتطلبه من التدريب و عمليات نقل البيانات ،وثالثا قلة الخبراء في أنظمة البرمجيات الحرة وذلك ناتج عن انتشار الأنظمة المملوكة منذ وقت بعيد.
في نهاية هذا المقال لا يسعني غير إبداء الإعجاب باعتماد البرمجيات الحرة في البرازيل والاغتباط بأن هناك الملايين الناس تستخدم نظام جنو/ لينكس الحر والبرمجيات الحرة المبنية عليه.