لوحة فنية هادئة، متناسقة العناصر والألوان، صادفتني في مكتب أحد العاملين في حقل التصميم الفني والإعلاني، ردت إلي – على تواضعها – شيئاً من الإحساس برونق الخط العربي البديع وسحره، والذي تبدد أو كاد مع زخم التيار التقني الجارف الذي حصد فيما حصد روح الفن البشري في كثير من مناحي الحياة.
الخط العربي…
فن خلدته أوابد الحضارة الإسلامية، وازينت به جنبات المتاحف الغربية، لينتهي به المطاف أسير قوالب تقنية صماء لا روح فيها ولا حياة، تصلبت فيها شرايينه وتيبست فيها أوصاله، فغدا هو الآخر عليلاً بدائها… صورة ميتة لا نبض فيها ولا حياة!
لكن صاحبنا استدرك مشيراً إلى أن هذه اللوحة ليست نتاج عمل يدوي أبدعته ريشة خطاط ماهر كما ظننت، بل هو برنامج حاسوبي متخصص بمعالجة الخط العربي.
إذن دعوني أوضح أمراً. لست هنا بصدد تجريم التقنية بذاتها، وهي التي كانت ولا تزال صنيعة الإنسان وأداته في ذات الوقت أولاً وأخيراً، وإنما أعتقد أننا أمام مشكلة تتعلق بالتوظيف السليم والحكيم للتقنية وأدواتها.
الخط العربي، ريشة في مهب الريح!
بداية، ومن واقع ما يبديه الحاسوب من قدرة في التعاطي مع الخط العربي بأشكاله التقليدية، أعتقد أنه يمكن فرز الخطوط العربية التقليدية إلى فئتين:
خطوط ثابتة الأبعاد والتراكيب، يتخذ الحرف فيها شكلاً ثابتاً أو أشكالاً محدودة لا يحيد عنها،
وأخرى غنية بالتراكيب المتغيرة والمتباينة، يمكن للحرف فيها أن يخضع للكثير من التصرف والتغيير وفقاً لموضعه في السياق وماهية الأحرف السابقة واللاحقة، فضلاً عن اللمسات الفنية التي يمكن ابتكارها وإضافتها من قبل هذا الخطاط أو ذاك.
وفقاً لهذا التصنيف يندرج في الفئة الأولى كل من الكوفي والنسخي الطباعي، ويندرج في الفئة الثانية كل من الثلث والديواني والفارسي. ويبقى كل من النسخي القديم (اليدوي) والرقعة في حالةٍ وسط بين الفئتين.
تشير التجارب حتى الآن إلى أن ملفات خطوط الحاسب (كـ TTF وغيرها)، أعطت نتائج طيبة فيما يتعلق بالفئة الأولى من الخطوط، في حين لم تبدِ مرونة كافية في التعامل مع الفئة الثانية، أي أن صلاحية هذه الملفات حتى الآن لا تزال محصورة في كل من الكوفي والنسخي فقط، ولا يمكن التعويل عليها في الخطوط ذات التراكيب الغنية والمتنوعة.
وقد حاولت مايكروسوفت بمجموعة خطوطها “آرابيسك” الالتفاف على هذه المشكلة ، حيث احتلت كلََّ (خانة حرفية) فيها جملةٌ شائعة الاستخدام في عناوين الكتب والمطبوعات – بدلاً من حرف واحد، كالبسملة و (تمهيد) و (مقدمة) و (كل عام وأنتم يخير)، (مرسومة) بأعلى درجات الإتقان. إلا أن حلاً كهذا سيبقى محدوداً بنصوص معينة وجاهزة.
ويقدم برنامج (كلك) التجاري حلاً في هذا الميدان، حيث يتيح لك الكتابة بكل من الفارسي والثلث بصورة رئيسية. يعامل البرنامج كل مقطع من الكلمة الواحدة كوحدة مستقلة، يمكن تغييرها وانتقاء أشكال أخرى منها. حيث تجد طيفاً واسعاً من الأشكال والأنماط المتنوعة لكل من (بر) و (نا) و (مج) على حدة في كلمة (برنامج) على سبيل المثال. إلا أن الذوق الرفيع والخبرة المعمقة بالخط العربي لدى المستخدم هنا تلعب دوراً حيوياً في تكوين نص ناجح فنياً، وذلك من خلال الانتقاء الحكيم للتراكيب المتاحة لكل مقطع من هذه المقاطع من جهة، وإزاحة هذه المقاطع وتحريكها، ورصها ورصفها جنباً إلى جنب بدقة وعناية من جهة أخرى، وهو ما لا يتعهد لك البرنامج بالقيام به عنك من تلقاء نفسه.
الخط الفارسي نتاج جهد بشري وحاسوبي
بعبارة موجزة، بقدر ما تتسع دائرة متطلبات الخط من مرونة وخيال، بقدر ما تضيق الخطوط الحاسوبية عن استيعابها والإحاطة بكل متطلباتها.
هذا فيما يتعلق بميدان الطباعة، أما…
على شاشة الحاسوب
فعلى الرغم من أن الحاسوب لم يبد حتى الآن قدرة على احتواء الخط العربي بكل ثرائه وغناه، إلا أن العكس يبدو صحيحاً، إذ يبدو أن تقنيات الحوسبة ومتطلباتها ستشكل دافعاً ملهماً لإثراء الخط العربي بخطوط جديدة.
فقد كان الخط Tahoma على سبيل المثال، منذ فجر ظهوره مع مجموعة تطبيقات أوفيس 95 من مايكروسوفت، وليد الحاجة إلى خط عالمي جديد واضح المعالم على شاشة الحاسوب، يحقق مستوىً من التناغم والانسجام بين أطقم الأحرف لمختلف اللغات فيه، على تباينها الشديد أصلاً.
وتسعى عائلة خطوط أوبونتو Ubuntu Font Family لسد هذه الثغرة في عالم لينكس حالياً.
وظيفياً، يمكن تقسيم خطوط الحاسوب عموماً إلى:
خطوط لبيئة سطر الأوامر
خطوط للواجهة الرسومية
خطوط ثابتة العرض Monospace (للنصوص البرمجية)
خطوط طباعية
خطوط بيئة سطر الأوامر
الخط المستخدم في بيئة الأوامر في مختلف أنظمة التشغيل هو عادة خط البيوس نفسه، إلا أن أنظمة التشغيل الحالية دأبت على استبداله بخط ثابت العرض من خطوطها، وهو ما أعتقد أنه يفسد بيئة الأوامر وسحرها الخاص!
أما إقدام أنظمة التشغيل على هذه الخطوة فمرده فيما أحسب إلى افتقار خط البيوس عادة إلى المحارف غير اللاتينية، إلا أن فكرة غزو نواة لينكس للبيوس التي يعد بها مشروع CoreBoot ـ (LinuxBIOS سابقاً) قد تكون كفيلةً بحل هذه المشكلة مستقبلاً.
خطوط الواجهة الرسومية GUI:
هي الأكثر أهمية نظراً لارتباطها الوثيق والدائم بنشاط المستخدم اليومي على الحاسوب.
وقد كان لإحلال خط Tahoma محل خط MS Sans Serif في إصدارات ويندوز 2000/XP دور ملحوظ في صقل واجهة الاستخدام العربية في بيئة ويندوز مقارنة بإصداراته السابقة.
في حين لا تزال بيئة سطح المكتب في لينكس مفتقرة لخط عربي من هذا القبيل يوازي خط Tahoma في ويندوز، إلا أن شركة كانونيكال Canonical التي تقف وراء إصدارة أوبونتو الشهيرة تعكف الآن على تطوير الحرف العربي لعائلة خطوطها Ubuntu Font Family التي صممت خصيصاً لهذا الغرض.
كل ما تقدم ينطبق على خطوط صفحات الوب أيضاً، خاصة إذا علمت أن تقنية CSS المستخدمة في تنسيق صفحات وب تسمح بتخصيص خط معين لكل وسط من أوساط النشر على حدة، فخط للشاشة وآخر للطباعة وثالث لجهاز العرض projector… الخ.
خطوط ثابتة العرض Monospace
هي الخطوط المستخدمة في كتابة النصوص البرمجية، والمحبذة أيضاً في محررات النصوص البسيطة. تتخذ كافة الأحرف في هذا الخط عرضاً ثابتاً موحداً،
يمثله في بيئة ويندوز Courier New، وفي بيئة لينكس كل من Ubuntu Mono الذي تعكف شركة Canonical على تطوير أحرفه العربية حالياً كما أسلفنا و Libration Mono وهو من عائلة خطوط Liberation من إنتاج RedHat والتي لا يبدو أنها معنية حالياً بتطوير طقم المحارف العربية فيه.
خطوط طباعية
وهي الخطوط الأكثر وفرةً وتداولاً، ولا تعاني أنظمة التشغيل نقصاً منها عربياً أو لاتينياً. يعد هذا النمط من الخطوط غنياً نسبياً بالزخارف والزوائد Serifs والمنحنيات، ولا يمكن تكوين معالمه بنقاط محددة وبسيطة على الشاشة، الأمر الذي يتطلب إخضاعه افتراضياً لخاصية التنعيم Smoothing.
عربياً، تتوزع الخطوط الطباعية المقبولة بين النسخ والكوفي كما أسلفنا، إضافة لبعض الخطوط المستحدثة. فيما يلي قائمة بأهم تلك الخطوط في عالم لينكس مقارنة بالخطوط العربية المعهودة في ويندوز.
الخطوط العربية في لينكس
إلا أن فئة النسخ التقليدي في بيئة لينكس، ممثلة بخط KacstBook من جامعة مدينة الملك عبدالعزيز ، وشهرزاد من المعهد الصيفي للغويات SIL، تفتقر، مقارنة بخط Traditional Arabic من مايكروسوفت، إلى التراكبات المدعومة من قبل Unicode.
تراكبات خط النسخ
هذه القراءة الأولية لتجربة الخط العربي على الحاسوب، تضعني أمام صورة مفادها، أنه وعلى الرغم من أن الإفراط في استخدام وتوظيف الخطوط الحاسوبية وحلولها البسيطة والمتقدمة حالياً يوحي بأن الخط العربي بات واحداً من ضحايا التقنية المعاصرة، إلا أن غياب الإحساس بجماليات الخط العربي والافتقار إلى ذوق سليم أولاً، وتغليب الخيارات الاقتصادية ذات النتائج المتواضعة على اللجوء ليد خطاط ماهر وهو الخيار الأكثر تكلفة والأفضل جودة ثانياً، هما العاملان الحقيقيان اللذان يقفا وراء الحالة المؤسفة التي انتهى إليها الخط العربي هذه الأيام.
فالعمل الفني ليس نتاج عملية حسابية أو صناعية بسيطة، بمدخلات ومخرجات مادية صماء، يسري عليها كل ما يسري على صناعة المنتجات المادية، بل هي نتاج خيال بشري خصب، وحس إنساني مرهف، وما ينبغي للعاملين في هذا الميدان التضحية بمبدأ الاحتكام إلى معايير الفن والذوق السليم، والانجراف أمام مغريات الكفاية الإنتاجية العالية التي تعد بها الوسائل التقنية، والتعويل عليها بهذه البساطة لإخراج مواد فنية وإعلانية تفتقر في نهاية المطاف للكثير من معالم الإبداع الإنساني الحر.
هذه المقالة شاركنا بها الأخ محمد أنس رمضان