في كثيرٍ من الأحيان يجد الإنسان نفسه قد زُجَّ به وسط صراعٍ مُحتدمٍ غاية الاحتدام، و من ثم يُضطر إلي تبني رأيٍ من الآراء التي يتصارع حولها المتصارعون لينضم بعدها إلي الفئة التي تناصر ذلك الرأي و تذود عنه.
لكن هذا ليس هو الصواب في رأيي؛ فالصواب هو أن يحلل المرء تلك الآراء جميعها ليري أيها المصيب و أيها المخطي ، أو ليقرر أن الأمر كله ليس إلا غبارٌ تذروه الرياح و ليس له من الواقع شيئاً ! و لو طبقنا هذا المنهاج علي الصراعات التي تدور حولنا هذه الأيام (في مختلف المجالات: من سياسةٍ و اقتصادٍ و أدبٍ... إلخ) لاكتشفنا (و لله الأمر من قبل و من بعد) أن أغلب تلك الصراعات ليس إلا بالوناتٍ فارغةٍ ليس هناك داعٍ لوجودها مطلقاً، و الهدف الحقيقي من ورائها لا يتعدى الترف الفكري أو إلهاء الناس بها لصرف أنظارهم عن الأشياء الأكثر أهميةً و فائدةً.
و كمثالٍ علي تلك الصراعات البالونية: المعركة بين أنصار الكتاب الورقي و أنصار الكتاب الإلكتروني.
و لكي يتبين لنا كم أنها معركةٌ مصطنعةٌ يجب علينا أن نضع بعض النقاط علي الحروف أولاً:
- هدف المثقف الأساسي هو نشر الفكر و الثقافة بين الناس بغض النظر عن الوسيلة التي يستخدمها لذلك.
- الشروط الوحيدة التي يجب توافرها في وسيلة التثقيف هي:
- سهولة الاستخدام.
- سهولة و سرعة الوصول إليها.
- قلة الأعراض الجانبية من جراء استخدامها.
- تحقيق بعض الربح المادي للناشر و المؤلف حتي يمكن لهما مواصلة القيام بدورهما.
- النشر الورقي يحقق الشروط المذكورة بنجاح، و لكن الكتاب الإلكتروني يحققها بنجاحٍ أكبر؛ و بالمقارنة بينهما سنري أن:
- الكتاب الإلكتروني لا يحجز أي حيزٍ من الفراغ علي الإطلاق، بينما يأخذ الكتاب الورقي حيزاً يزداد كلما ازداد عدد الكتب الورقية، و بالتالي عند محاولة تكوين مكتبةٍ فسيتضح أن هذا أمرٌ في غاية السهولة في حالة الكتب الإلكترونية و أصعب بمراحل في حالة الكتاب الورقي.
و كذا في حالة السفر نري أن الكتاب الإلكتروني أسهل في الحمل و في عدد الكتب التي يمكنك اصطحابها معك في أثناء السفر، بينما لا يمكنك أن تحمل إلا أقل القليل من الكتب الورقية التي سترهقك بدنياً و ستكون قليلة العدد جداً في نهاية المطاف. - تكلفة كتابة و نشر الكتاب الإلكتروني تكاد تكون صفراً؛ فالبرمجيات التي تلزم لكتابة الكتاب نفسه و تنسيقه يوجد منها الكثير بشكلٍ مجاني، و كذلك فهناك متاجرٌ إلكترونيةٌ متخصصةٌ لبيع الكتب الإلكترونية بمنتهي السهولة و اليسر، و لأن هذه التجارة لا تكاد تُكلف إلا أقل القليل فتكون أسعار الكتب الإلكترونية صغيرةً للغاية ولا تكاد تُذكر مقارنةً بالنسخ الورقية لذات الكتب ! فلو كان سعر كتابٍ إلكترونيٍ معينٍ خمسين دولارٍ مثلاً فسنجد أن سعر نسخته الإلكترونية علي الاغلب ربما لا يزيد علي الدولار الواحد !
- لكي تشتري كتاباً ورقياً ربما تحتاج إلي السفر إلي مدينةٍ ما لوجود معرضٍ للكتب داخلها، أو لأن المكتبات الوحيدة التي تبيع ذلك الكتاب ليس لها فروعٌ إلا هناك !
بينما الأمر في غاية السهولة في حالة الكتاب الإلكتروني؛ فبمجرد تصفحك لمواقع بيع الكتب الإلكترونية يمكنك أن تجد ضالتك التي تريدها، بل هذا يسمح لك أيضاً بأن تأخذ وقتاً أكبر للترجيح بين الكتب التي ينافس بعضها البعض (فلم العجلة ما دام الأمر متاحاً طوال الوقت ^_^). - بعد شراء الكتاب الإلكتروني سيصل إلي حاسوبك في ثوانٍ (أو دقائق اعتماداً علي سرعة الشبكة عندك، و كذا حجم الكتاب نفسه)، بينما ربما تحتاج إلي أيامٍ حتي يأتيك الكتاب الورقي حتي دارك (لو كان الكتاب لا يُنشر إلا في دولةٍ أخري)، بل ربما لا يمكنك أن تشتريه من الأصل نتيجةً لتكلفته الكبيرة مضافاً إليها تكلفة شحنه إليك !
- يتساوى كلا الكتابين الورقي و الإلكتروني في نقطة الأعراض الجانبية؛ حيث أن إضعاف النظر فيهما له ذات القدر من القوة.
- كما قلنا قبلاً أن تكلفة النشر الإلكتروني صغيرةٌ جداً بالمقارنة مع النشر الورقي، لذلك فالمكسب كبيرٌ حتي و إن كان السعر النهائي صغيرٌ جداً.
- الكتاب الإلكتروني لا يحجز أي حيزٍ من الفراغ علي الإطلاق، بينما يأخذ الكتاب الورقي حيزاً يزداد كلما ازداد عدد الكتب الورقية، و بالتالي عند محاولة تكوين مكتبةٍ فسيتضح أن هذا أمرٌ في غاية السهولة في حالة الكتب الإلكترونية و أصعب بمراحل في حالة الكتاب الورقي.
مما سبق نري أن المعركة مفتعلةٌ بالفعل، و الأمر الوحيد الذي يمكن أن يجعل القارئ ينفر من استخدام الكتاب الإلكتروني هو الاعتياد لا أكثر و لا أقل، و هذا ما يمكن للزمن أن يتغلب عليه و لو ببعض الجهد و الصعوبة (عن تجربةٍ أقول هذا).